الوقفة الأولى
ما أحلى لقاء المُضيِّف بضيفه الغالي على قلبه ... وما أكثر تفكيره بأنجع الطرق لاستقبال
وما أخجـله إذا علم عن كرم ضيفه ... فما له إلا أن يسعى بخيله ورجله تبادلاً مع تلك العطاء
لكن ما أقبح ذلك الرجل الذي لا يعرف الشهامة ولا المروءة ... فَيُقَـفِّي هاربـًا عن الإحسان لضيفه ... والعجب أنَّ ذلكم الزائر هو المُمتن بالخير لا ضيفه !! نعم إنه ضيفٌ ومضيِّف !!
إنه كريـم ومُكرِم ... إنه شهر الرحمات ... إنه شهر القرآن والبركات ..
شهــر رمضان أبا الخـيرات !!
فمرحبـًا حيَّ هلا بقرب قدومك يا شهرنا ...
ونداءً لأهل الإيمان : الحقـوا بالركب .. وأحسنوا الضيافة من البداية ؛ لتصلح النهاية
فهو مضمار سباق المتقين ، ومجال تنافس الصالحين ، فاستقبلوا ضيفكم بالحمد والمنة
والصلاة وقراءة القرآن والصدقة ، ودعوا عنكم استقباله بتجميع أنواع الأطعمة
وكأنه شهر تغلق فيه كل أسواق التغذية !!
والأقبح من ذلك والأشر من يستقبله بشر النظرة ، وشر مشية للمعاصي والمنكرات فما أن يُعلن عن دخول الشهر الكريم وإلا ويخطط ذلك المسكين مع شياطينٍ لم تُصفد عن قضاء ساعات إفطاره معهم ظانـًا بذلك الترويح فيهرول لمشاهدة المسلسلات والتُّرهات فو الله مسكين ثم محروم ثم مخذول من كان هذا فعله ... أفلا يستحي من الكريم الذي أنعم عليه ببلوغ شهره أن يعصيه بما أعطاه من القوة ... أفلا يذكر أن الله قادر على أن يسلب ما أنعم عليه بدقائق بل بثوانٍ معدودة ... كم من رمضان قد كان هذا ديدنه وربك يمهل
لكن ! لا يهمل . لكن ! لا يهمل . لكن ! لا يهمل . فإذا أخذ الظالم لم يفلته
والبعض يظن أن رمضان شهر الفوازير، ومشاهدة ولعب المباريات ...
وسهر الليالي المضيعات للأوقات ...
فيا سبحان الله أتعجز يا مسكين أن تشد من أزرك شهـرًا تقلل فيه من المُلهيـات ؟!
فهو شهر تفتح فيه أبواب الجنة ، وتغلق فيه أبواب الجحيم ، وتغل فيه الشياطين
ولله في كل يوم عتقاء من النار كما أخبر بذلك المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه
فكم من إنسان لن يدرك هذا الموسم العظيم فقد توسد الثرى والتحف التراب ..
فلا تبخل على نفسك بعقد العزيمة والنية الصالحة لبذل المزيد في هذا الشهر الكريم .
واعرف قيمة هذا الموسم كما عرفه سلفنا الصالح فشمروا فيه عن ساعد الجد ..
واجتهدوا في العمل الصالح طمعـًا لمرضاته ..
* فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان أجود بالخير من الريح المرسلة وكان جوده شاملاً لجميع أنواع الجود ، من بذل المال ، وبذل النفس لله تعالى في إظهار دينه وهداية عباده ..
* وهذا مالك بن أنس إذا دخل رمضان يفر من الحديث ومجالسه أهل العلم ويقبل على تلاوة القرآن من المصحف ...
الله أكبر يفر من مجالس العلم فهل نفر من فضول المباحات ؟!
* وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن .
* وكان سعيد بن جبير يختم القرآن في كل ليلتين .
* وقال إبراهيم بن أبي أيوب: كان محمد بن عمرو الغزي يأكل في شهر رمضان أكلتين .
همسـة : قال ابن القيم رحمه الله : { إضاعة الوقت أشد من الموت لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها } فكيف بجرم إضاعة الوقت في أنفس الأزمان ؟!
فيا ليت شعري من المُتم لشهره المقبول عند ربه .. ومن المُتم المخذول المردود ..
ومن هو ستخطفه المنايا فيرحل .
ربنـا إنا نسألك أن تبلغنا شهرنا .. وتتجاوز عن سيئاتنا .. وتختم بالصالحات أعمالنا
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
الوقفة الثانية
ارتبط شهر رمضان لدى الكثير منا بأطباق ووجبات وعصائر معينة، ولذلك فإن جولة قصيرة في أسواقنا التموينية ستظهر حجم الاستعداد "الغذائي " لهذا الشهر، أضف لهذا كله أن دخول شهر رمضان هذا العام تزامن مع بداية الفصل الدراسي الأول، وفي ظل ارتفاع الأسعار فإن الالتزامات المالية على الناس تزداد بشكل عام، هذه الالتزامات ومهما كان حجمها فإنها لا يمكن مقارنتها أبداً بما يعانيه إخوة لنا في أماكن كثيرة سواءً تلك الأماكن المحتلة كفلسطين والعراق وأفغانستان والصومال أو غيرها من الأماكن التي تعاني من الفقر والجوع والحرمان.
ولكننا نعلم جميعا أن هنالك معاني عظيمة في الصوم ينبغي أن نستشعرها ونحييها في نفوسنا ونفوس أهلنا وأبنائنا، ففي أي ظرف سيئ قد يمر به أحدنا فإنه لن ينسى بعد زوال تلك الغمة كل من وقف معه وسانده ولو بكلمة تواسيه وتخفف الألم عنه، وكذلك حال إخواننا المستضعفين والذين يمر عليهم شهر رمضان وبداية العام الدراسي وهم غير قادرين على شراء ما يحتاجون إليه من طعام أو شراب أو كساء، بل إن فرحتهم بقدوم الشهر الكريم لا تكتمل إذ لا يزال ابنهم أو والدهم سجيناً في سجون الاحتلال إن لم يكن قد سقط شهيداً بقصف الطائرات أو قذائف الدبابات، وآخرون قد هدم العدو بيوتهم فهم بلا مأوى، وآخرون .. وآخرون .. قصة تطول صفحاتها المملوءة بالحزن والأسى.
هنا لا بد أن أذكر نفسي وإخواني بأننا لا ينبغي لنا أن نخذل إخواننا وعلينا نتذكر قول قائدنا ونبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مِنْ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ وَمَا مِنْ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ"(1)، والخذلان هو تَرْك الْإِعَانَة وَالنُّصْرَة، " وَالْمَعْنَى لَيْسَ أَحَد يَتْرُك نُصْرَة مُسْلِم مَعَ وُجُود الْقُدْرَة عَلَيْهِ بِالْقَوْلِ أَوْ الْفِعْل عِنْد حُضُور غِيبَته أَوْ إِهَانَته أَوْ ضَرْبه أَوْ قَتْله أَوْ نَحْوهَا"(2).
إن أخلاقنا وعاداتنا وتقاليدنا وطبائعنا تملي علينا ضرورة وقوفنا مع إخواننا وشعورنا بأحوالهم ومواساتهم وتخفيف معاناتهم، وقبل هذا كله علينا الامتثال لأمر الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم لنا بنصرة إخواننا المستضعفين، قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة: 2[ .
ولقد ضرب لنا الرسول صلى الله عليه وسلم المثال الإيجابي وشبه حال المسلمين بحال الجسد الواحد، فقال عليه الصلاة والسلام: " مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ وتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى منهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَد بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى" رواه البخاري ومسلم، إن هذا المثال بحاجة للتأمل قال ابن حجر رحمه الله: " قوله : (كمثَلِ الجسد) أَي: بِالنِّسْبَةِ إلى جميع أَعْضَائهِ, ووَجْه التَّشْبِيه فيه التَّوَافُق في التَّعَب والرَّاحَة. قوله: (تدَاعَى) أَي: دَعَا بَعْضه بَعْضًا إِلى الْمُشَارَكَة في الأَلم ... قوله: (بالسَّهَر وَالْحُمَّى) أَمَّا السَّهَر فَلأَنَّ الأَلَم يَمْنَع النَّوْم, وَأَمَّا الحُمَّى فلأَنَّ فَقْدَ النَّوم يُثِيرهَا... فَتشْبِيهه المؤمنينَ بِالجسَدِ الوَاحد تمثِيل صحيح, وفيه تَقرِيب للفهم وإظْهَار لِلمعَانِي في الصُّوَر الْمَرْئِيَّة, وفيه تعْظِيم حُقُوق المسلمين والحضّ على تعاونهم ومُلاطَفة بعضهم بعْضًا"(3)، وهذا الحديث توجيه لنا بأن يكون حالنا كحال الجسد الواحد الذي يتفاعل كله مع أي ألم يحل بجزء منه، إنها صورة حسية علينا أن نجعل منها صورة معنوية على أرض الواقع، إذاً فليكن من استعداداتنا الرمضانية أن نحيي عملياً صورة الجسد الواحد .
فعندما نشعر بالجوع في أثناء الصوم فإنه سرعان ما يحين وقت الإفطار ونأكل ونشرب ما كنا نشتهيه من طعام أو شراب، وكذلك الحال عندما يعجبنا لباس ما لأبنائنا فإننا سرعان ما نقتنيه، أليس من أذكار النوم التي علمنا إياها حبيبنا صلى الله عليه وسلم أن نقول: "الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي"(4)، اللهم اغفر لنا تقصيرنا في حق إخواننا وأعنا على أن يكون من استعداداتنا في رمضان أن نؤدي بعض حقهم علينا بأن نمد يد العون لهم بما نستطيع.
-------------------------
1- أخرجه رواه أبو داود، والإمام أحمد في مسنده.
2-عون المعبود، 10/408.
3- فتح الباري، 10/439.
4- مسلم 4/ 2085
زياد بن عابد المشخوتي