وفي العام الماضي (أي بعد مرور خمس سنوات متتالية من
اخفاء آلاف المدنيين الأنبار ونينوى وصلاح الدين) وما رافقها من صمت للسلطات، أصدر
مجلس القضاء الأعلى في العراق بيانا أعلن من خلاله عن اجتماع لبحث (قضية المفقودين
والمغيبين) وأوعز إلى محاكم التحقيق حسب الاختصاص المكاني بتلقي شكاوى المواطنين
بخصوصهم، واتخاذ الإجراءات القانونية لمعرفة مصيرهم.
ومن الناحية القانونية فإن مصطلح (المفقود) له تعريف في
المدونة القانونية العراقية، بوصفه (من غاب بحيث لا يعلم أحي هو أم ميت بحكم كونه
مفقودا بناء على طلب ذي شأن) (المادة 1/ 36 من القانون المدني العراقي)، وهو ما
يستوجب صدور حكم قضائي لإعلان حالة المفقود، وما يترتب على ذلك من إجراءات تتعلق
بالأحوال الشخصية (قانون الأحول الشخصية وقانون رعاية القاصرين)، وهذا يعني أن هذا
يقع ضمن اختصاص محاكم الأحوال الشخصية حصرا (المادة 299/ 6 من قانون المرافعات
المدنية).
لكن القوانين العراقية المختلفة لم ترد فيها مفردة
(المغيبين) التي استخدمها بيان مجلس القضاء الأعلى! وهو ما يعني عدم وجود أي إجراء
قانوني يمكن اتخاذه في مواجهة تلك الجرائم! دون أن يلاحق القضاءُ أو يحاكم أياً من
المتهمين بارتكاب تلك الجرائم، وكان من الواضح أن استخدام البيان لهذه المفردة،
التي يتم تداولها بشكل واسع على لسان السياسيين العراقيين، وعدم استخدام تعبير
(الاختفاء القسري)، وهو التوصيف القانوني لما وقع، هي محاولة متعمدة من مجلس
القضاء الأعلى للتغطية على هذه الجرائم التي تعد من الجرائم ضد الإنسانية، وترقى
لأن تكون جريمة حرب إذا وقعت في سياق نزاع داخلي.
وشكل مجلس النواب العراقي منذ أكثر من سنة لجنة لمتابعة
ملف المخفيين قسريا والكشف عن مصيرهم، ولم تعلن اللجنة عن أي نتائج لعملها المفترض
حتى الآن، بينما لم يبادر رئيس الجمهورية السيد برهم صالح بأي خطوة في هذا الملف،
لاسيما وأن له مبادرات محمودة في ملفات ضحايا داعش من الايزيديات وضحايا مجزرة
سبايكر، وكذلك لم تتخذ حكومتي السيدين العبادي وعبد المهدي أي موقف يذكر لكشف مصير
المخفيين قسرا وملاحقة مرتكبي جرائم إخفائهم.
وهو ما يعني دون شك وجود سياسة منهجية لعدم الاعتراف
بحالات الاختفاء القسري التي وقعت، وتجري محاولات منهجية لتحويل الجريمة ضد
الانسانية التي ترقى لأن تكون جريمة حرب، إلى قضية أحوال شخصية، وهو ما سيضطر ذوي
الضحايا والمنظمات الحقوقية المعنية باللجوء إلى ما تضمنته الاتفاقية من إمكانية
تدويل هذا ملف المخفيين قسرا، معتمدين على وجود التزامات دولية تلزم السلطات
العراقية بملاحقة مرتكبي تلك الجرائم والكشف عن مصير الضحايا.
ووفقا لروايات متواترة وثقها مركز بغداد لحقوق الإنسان
لمختطفين أفرج عنهم بفدية مالية في فترات سابقة، فإن أعددا كبيرة من المخفيين تقبع
في سجون سرية تابعة لمليشيات في ناحية جرف الصخر شمال محافظة بابل، وهذه السجون
عبارة عن مدارس ومنازل احتلتها المليشيات وحولتها الى مراكز للاعتقال، ويتعرض
المختفيين فيها لصور بشعة من التعذيب وسوء المعاملة من قبل عناصر المليشيات، وأكدت
تلك الروايات برواية “صالح العلواني” (84 عاماً)، الذي أطلق سراحه في الشهر الأول
من العام الماضي بعد ان قضى قرابة الأربع سنوات في سجون المليشيات في جرف الصخر،
بعد اخفائه عند مروره بحاجز أمني في منطقة بحيرة الرزازة.
وقد انضمت جمهورية العراق الى الاتفاقية الدولية لحماية
الأشخاص من الاختفاء القسري، بموجب القانون رقم 17 لسنة 2010، والمنشور بجريدة
الوقائع العراقية بالعدد: 4158، بتاريخ: 12/01/2010، وأُودع صك الانضمام في
23/11/2010، وبموجبه أصبحت السلطات العراقية ملزمة بتنفيذ أحكام الاتفاقية التي
نصت على الحقوق التالية:
عدم تعريض أي شخص للاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو
أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية يتم على أيدي موظفي الدولة، أو أشخاص أو
مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن أو دعم من الدولة أو بموافقتها، ويعقبه رفض
الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده، مما
يحرمه من حماية القانون، وألا يجوز التذرع بأي ظرف استثنائي كان، سواء تعلق الأمر
بحالة حرب أو التهديد باندلاع حرب، أو بانعدام الاستقرار السياسي الداخلي، أو بأية
حالة استثناء أخرى، لتبرير الاختفاء القسري، ويجب ان تتخذ التدابير الملائمة
للتحقيق في تلك التصرفات التي يقوم بها أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون دون
إذن أو دعم أو موافقة من الدولة، ولتقديم المسؤولين إلى المحاكمة، وان تتخذ
التدابير اللازمة لكي يشكل الاختفاء القسري جريمة في قانونها الجنائي، وتشكل
ممارسة الاختفاء القسري العامة أو المنهجية جريمة ضد الإنسانية كما تم تعريفها في
القانون الدولي المطبق وتستتبع العواقب المنصوص عليها في ذلك القانون.
وان تتخذ التدابير اللازمة لتحميل المسؤولية الجنائية
على أقل تقدير، لكل من يرتكب جريمة الاختفاء القسري، أو يأمر أو يوصي بارتكابها أو
يحاول ارتكابها، أو يكون متواطئا أو يشترك في ارتكابها، وللرئيس الذي كان على علم
بأن أحد مرؤوسيه ممن يعملون تحت إمرته ورقابته الفعليتين قد ارتكب أو كان على وشك
ارتكاب جريمة الاختفاء القسري، أو تعمد إغفال معلومات كانت تدل على ذلك بوضوح، أو
كان يمارس مسؤوليته ورقابته الفعليتين على الأنشطة التي ترتبط بها جريمة الاختفاء
القسري، أو لم يتخذ كافة التدابير اللازمة والمعقولة التي كان بوسعه اتخاذها
للحيلولة دون ارتكاب جريمة الاختفاء القسري أو قمع ارتكابها أو عرض الأمر على
السلطات المختصة لأغراض التحقيق والملاحقة، لا يجوز التذرع بأي أمر أو تعليمات
صادرة من سلطة عامة أو مدنية أو عسكرية أو غيرها لتبرير جريمة الاختفاء القسري.
ولا يجوز حبس أحد في مكان مجهول، ويتعين على السلطات
العراقية في إطار تشريعاتها، القيام بتحديد الشروط التي تجيز إصدار أوامر الحرمان
من الحرية، وتعيين السلطات المؤهلة لإصدار أوامر الحرمان من الحرية، وضمان عدم
إيداع الشخص الذي يحرم من حريته إلا في مكان معترف به رسميا وخاضع للمراقبة، وضمان
حصول كل شخص يحرم من حريته على إذن للاتصال بأسرته أو محاميه أو أي شخص آخر
يختاره، وتلقي زيارتهم، رهنا فقط بمراعاة الشروط المنصوص عليها في القانون، وضمان
حصول الأجنبي على إذن للاتصال بالسلطات القنصلية لدى بلده وفقا للقانون الدولي
الواجب التطبيق، وضمان سبل وصول كل سلطة ومؤسسة مختصة ومؤهلة بموجب القانون إلى
أماكن الاحتجاز، وذلك، عند الضرورة، بإذن مسبق من سلطة قضائية، و ضمان حق كل شخص
يحرم من حريته، وفي حالة الاشتباه في وقوع اختفاء قسري، حيث يصبح الشخص المحروم من
حريته غير قادر على ممارسة هذا الحق بنفسه، حق كل شخص لـه مصلحة مشروعة، كأقارب
الشخص المحروم من حريته أو ممثليهم أو محاميهم، في جميع الظروف، في الطعن أمام
محكمة تبت في أقرب وقت في مشروعية حرمانه من حريته وتأمر بإطلاق سراحه إذا تبين أن
حرمانه من حريته غير مشروع.
كما يجب ان السلطات تتضمن وجود واحد أو أكثر من السجلات
أو الملفات الرسمية بأسماء الأشخاص المحرومين من حريتهم وتستوفيها بأحدث
المعلومات، وتضعها فورا، بناء على الطلب، تحت تصرف أية سلطة قضائية أو أية سلطة
أخرى أو مؤسسة مختصة ومؤهلة بموجب تشريعاتها المعنية أو بموجب أي صك قانوني دولي
ذي صلة تكون الدولة المعنية طرفا فيه. وتتضمن هذه المعلومات على الأقل هوية الشخص
المحروم من حريته، وتاريخ وساعة ومكان حرمان الشخص من حريته والسلطة التي قامت
بحرمانه من حريته، والسلطة التي قررت حرمانه من الحرية أسباب الحرمان من الحرية،
والسلطة التي تراقب الحرمان من الحرية، ومكان الحرمان من الحرية، وتاريخ وساعة
الدخول في مكان الحرمان من الحرية، والسلطة المسؤولة عن الحرمان من الحرية،
والعناصر ذات الصلة بالحالة الصحية للشخص المحروم من الحرية، وفي حالة الوفاة
أثناء الحرمان من الحرية، ظروف وأسباب الوفاة والجهة التي نقلت إليها رفات
المتوفى، وتاريخ وساعة إخلاء سبيله أو نقله إلى مكان احتجاز آخر، والمكان الذي نقل
إليه والسلطة المسؤولة عن نقله.
وان تضمن لأي شخص يثبت أن لـه مصلحة مشروعة في الحصول على
هذه المعلومة، كأقارب الشخص المحروم من حريته أو ممثليهم أو محاميهم، إمكانية
الاطلاع على الأقل، السلطة التي قررت حرمانه من الحرية، وتاريخ وساعة ومكان
الحرمان من الحرية ودخول مكان الحرمان من الحرية، والسلطة التي تراقب الحرمان من
الحرية، ومكان وجود الشخص المحروم من حريته، بما في ذلك في حالة نقله إلى مكان
احتجاز آخر، المكان الذي نقل إليه والسلطة المسؤولة عن نقله، وتاريخ وساعة ومكان
إخلاء سبيله، والعناصر ذات الصلة بالحالة الصحية للشخص المحروم من حريته، وفي حالة
الوفاة أثناء الحرمان من الحرية، ظروف وأسباب الوفاة والجهة التي نقلت إليها رفات
المتوفى، وعليها أيضا اتخاذ تدابير ضمان حماية الأشخاص المشار إليهم من كل سوء
معاملة أو تخويف أو عقاب بسبب البحث عن معلومات عن شخص محروم من حريته.
إن مركز بغداد لحقوق الإنسان يؤكد أن جرائم الاختفاء
القسري في العراق ظاهرة وليس حالات فردية، وان أغلب جرائم الإخفاء القسري ترتكب
بشكل منظم، كما يؤكد المركزُ ان السلطات العراقية لم تُقدم على اتخاذ أي خطوة جدية
لمعرفة مصير هؤلاء المخفيين، ولا التحقيق مع أي من الجهات والقيادات المتهمة
بارتكاب تلك الجرائم، وعلى ما يبدو أن هذه السلطات لا تنوي حتى الآن إنهاء مسلسل
صمتها عن هذا الملف الإنساني المؤلم.
ويطالب مركزُ بغداد لحقوق الإنسان الأمم المتحدة
واللجنة الدولية المعنية بالاختفاء القسري بالتدخل العاجل للضغط على السلطات
العراقية من أجل معرفة مصير المخفيين قسرا وإيقاف تلك الجرائم ومحاكمة مرتكبيها
وحث السلطات العراقية على الوفاء بالتزاماتها الدولية.
مركز بغداد لـ"حقوق الإنسان"
7/10/1441
30/5/2020