سلسلة " على بصيرة "- الحلقة الأولى: البصيرة في دين الله ؟ - أيمن الشعبان

بواسطة قراءة 4750
سلسلة " على بصيرة "- الحلقة الأولى: البصيرة في دين الله ؟ - أيمن الشعبان
سلسلة " على بصيرة "- الحلقة الأولى: البصيرة في دين الله ؟ - أيمن الشعبان

الحمد لله رب العالمين، العليم الحكيم، والصلاة والسلام على إمام المتقين المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، ومن تبعهم أو سار على نهجهم إلى يوم الدين، أما بعد:

خواطر وهمسات، فوائد وعَبَرات، ومضات واستنباطات، عِبر وعظات، آداب وأخلاقيات، عقيدة وعبادات، منهاج وسلوكيات؛ وكل ما يفتح الله به علينا في تلك السلسلة " المنهجية الدعوية التربوية الوعظية " المباركة والنافعة إن شاء الله تحت عنوان " على بصيرة " نبدأ بها بعد توفيق الله تعالى ومعونته، والتوكل عليه  والاستعانة به.

على علم وبصيرة، وفهم ودراية، وفقه وشمولية، وتأصيل صحيح، وتفصيل صريح، وأسلوب مريح، بحجة واضحة، وبرهان جلي، واستدلال صالح، واستئناس بمواقف وحِكم وعبارات السلف الصالح، نتجول معا في بستان " على بصيرة " لنقطف ثمار النصح، وزهور التذكرة، من الإيمان والعمل الصالح، والتقوى والاستقامة، والثبات وحسن الخلق.

تتكون هذه السلسلة من حلقات نتناول في كل حلقة موضوع أو قضية أو مفهوم أو حالة، نذكر فيها بعض الفوائد والالتفاتات، والفرائد واللمسات، لتعميق مفهوم شرعي، أو تصحيح سلوك وعمل، وتقويم اعوجاج، وتشخيص مرض، ووضع حلول ناجعة وتوصيات نافعة، والتعاون للوصول لأمثل طريقة لنيل رضا الله عز وجل وتخليص النفس مما كدرها من شوائب وأمراض وآفات وسخائم.

لمّا طغت الحياة المادية واستحوذت على جل أوقاتنا وأكثر همومنا وغالب تفكيرنا، كان لزاما علينا أن نقف مع أنفسنا ونشخص المرض ونضع الحلول والعلاج، في ظل تلاطم وغزارة العقائد الفاسدة والمناهج المنحرفة والسلوكيات المشينة والأخلاقيات السيئة التي تقصفنا ليل نهار لاسيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل والانفتاح الكبير، حتى أصبح التنافس بتلك البرامج في تسابق مع الزمن.

أضف إلى ذلك كثرة التنقل والانخراط والاندماج في بيئات هجينة جديدة، تختلف فيها العقائد والتقاليد والأعراف والأخلاق، والإنسان يتأثر بمحيطه مع تقادم الزمان وضعف الناصحين والخلان، و (إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن . كقلب واحد . يصرفه حيث يشاء) أخرجه مسلم.

وعليه نحن جميعا بحاجة لمحاسبة النفس والتصرف والحركة والسكنة، وتعاهد محاسن الأعمال والأخلاق والعقائد، وما ذلك إلا بالمداومة وتذكير النفس بحقيقة الأشياء وما يصلح منها وما لا يصلح، ولا يكون كل هذا إلا إذا تصورنا وفهمنا بعلم وبصيرة ودراية كل ما يتعلق بحياتنا الدينية والمعاشية.

وقبل الشروع بتلك المواضيع لابد أن نتعرف على أهمية البصيرة والفهم الثاقب الصحيح في دين الله، لأن العلم قبل القول والعمل، والعلم الأصيل ينقلنا إلى تصور واضح ومثمر وعمل رصين منتج، بخلاف العلم الدخيل الذي يستجير صاحبه من الرمضاء بالنار ، فتعمى البصيرة وبالتالي تكون نتائج لا تحمد عقباها، لأن صحة الانتهاء من صحة الابتداء.

وتكمن أهمية البصيرة في دين الله عز وجل باكتساب الثقة في النفس والطمأنينة وانشراح الصدر وحسن السجية وتصحيح النية، والابتعاد عن الحمية الجاهلية والعصبية القبلية والعشائرية، وعدم التأثر بالعاطفة المؤقتة والاندفاع الغير محسوب والتصرف اللامدروس.

لقد ذكر الله عز وجل البصيرة في كتابه العزيز وربطها بمقام الدعوة الذي هو من أجل المقامات حيث قال جل وعلا } قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين { ( يوسف: 108)، قال العلامة السعدي ( على بصيرة: أي على علم ويقين من غير شك ولا امتراء ولا مرية ).

فالذي لا يتسلح بالعلم ولا يتقوى بالفهم ولا يعضّد ذلك بالبصيرة، كالضائع في ظلام الصحراء التائه بلا هدى كلما ظن أنه اقترب من مبتغاه ازداد بعدا وحسرة وكمدا، لأن البصيرة هي الحجة الواضحة والبرهان البيّن المنير، فالداعية إلى الله كالمبلغ عن ربه لا ينبغي أن يقول ما ليس له به علم وحجة وبرهان.

والبصيرة هي الدليل الواضح الذي لا لبس فيه، الذي يعصم الإنسان من الزلل والشطط والانحراف، ويهديه إلى جادة الصواب ويصحح سلوكه، والبصيرة هي الدين والبيان، وهي العلم الذي تميز به الحق والباطل، والنور الذي يبصر به القلب، ( والبصيرة هي المعرفة الثابتة باليقين والشاهد للأمر والحجة والقوة التي تدرك بها الحقائق العلمية وعقيدة القلب ) تفسير القطان.

( والبصيرة هي النظر في الواقع من خلال النور الذي يقذفه الله سبحانه وتعالى في قلوب من يشاء من عباده، فإذا قذف الله نوره في قلب عبدٍ مؤمن، فإنه يرى ما أخبرت به الرسل كأنه رأي عين ... والبصيرة التي تأتي بالتفقه بالدين، والتي تأتي بعبادة الله ، البصيرة التي تأتي بالإقبال على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي يقوم بهذه الأعمال يقذف الله في قلبه نوراً يعرف به الحق من الباطل ... وإذا كان عندك بصيرة، فإن أي حدث يحدث سيكون عندك فيه وضوح رؤية ) من كلام محمد صالح المنجد/ فائدة البصيرة.

( البصيرة من أعظم ما يرزق به المتقي، فتكون له بصيرة و فرقان يفرّق به بين الحق والباطل وأن يكون له نور من ربّه يضيء دربه فيحذر الشر ويرجو الخير ويوفَّق { إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا} ) محمد المنجد من سلسلة أعمال القلوب ص221.

وبالبصيرة يكون الإنسان على هداية ونور وسعادة وسرور، وإن كثُر المخالفين والمتربصين والزائغين عن الصراط المستقيم، وربنا تبارك وتعالى أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يخاطب المشركين المكذبين لدعوته بأنه على بصيرة من شريعته } قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين { ( الأنعام: 6 ).

( قل لهم يا محمد: إني فيما أخالفكم فيه على بصيرة من شريعة ربي، التي أوحاها إلي، وقد كذبتم أنتم بالقرآن، وهو بينتي على صدق نبوتي وعلى صدق ما دعوتكم إليه، ثم إنكم تطمعون في أن أتبعكم على ضلال أنتم مقيمون عليه، ولا بينة لكم عليه غير التقليد للآباء والأجداد، والخضوع لهوى النفس، وإنكم تستعجلون بالعذاب الذي أنذركم به الله ... ) ( أيسر التفاسير ص 847 ).

 من غير المعقول تحري الإنسان عن أدق الأمور الحياتية والتبحر في كثير منها والتعمق، بل والمثابرة وبذل الغالي والنفيس من مال ونفس ووقت وجهد، في سبيل دنيا فانية أو مستقبل موهوم ومنصب غير معلوم، فتجد الكثير ممن ينتقلون من بيئة إلى مجتمع جديد يحرصون على تعلم كل ما من شأنه الإسراع باندماجهم وانسجامهم مع البيئة الجديدة كتعلم اللغة ودخول الدورات المكثفة ومراعاة العديد من المصالح والانضباط والالتزام بقوانين تلك الدولة وهذا إلى حد ما مطلوب؛ لكن العجب كل العجب من إهمال ما فيه خيري الدنيا والآخرة!!

فما أحوجنا في مثل هذه الأيام للتبصر بدين الله في كل صغيرة وكبيرة، لا سيما والفتن تزداد يوما بعد يوم، ولا عاصم منها إلا الله، فبعد الاستعانة بالله وحفظه ورعايته لعباده، لابد من بذل الجهود المضنية من وقت ومال لمحاسبة النفس وإدانتها وترشيد مسارها، ولن يكون ذلك إلا بالعلم والفهم والتأمل والتدبر والبصيرة التي إذا انعدمت لم نُعصَم من الفتن.

فقد ذكر الإمام الذهبي في السير ( عن أم سلمة أن أبا عبيدة لما أصيب، استخلف معاذ بن جبل، يعني في طاعون عمواس، اشتد الوجع، فصرخ الناس إلى معاذ: ادع الله أن يرفع عنا هذا الرجز، قال: إنه ليس برجز ولكن دعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وشهادة يخص الله [ بها ] من يشاء منكم، أيها الناس ! أربع خلال من استطاع أن لا تدركه، قالوا: ما هي ؟ قال: يأتي زمان يظهر فيه الباطل. ويأتي زمان يقول الرجل: والله ما أدري ما أنا، لا يعيش على بصيرة، ولا يموت على بصيرة ).

فيا سبحان الله من لا يعيش على بصيرة ولا يموت على بصيرة يخشى عليه من الولوج في الفتن والانغماس بها، وما أقرب زماننا من هذه الأحوال ، نعوذ بالله من الخذلان.

ولأهمية البصيرة فقد جعلها ابن القيم رحمه الله المنزلة الثانية من منازل " إياك نعبد وإياك نستعين" حيث يقول: ( فالبصيرة نور يقذفه الله في القلب، يرى به حقيقة ما أخبرت به الرسل، كأنه يشاهده رأي العين. فيتحقق مع ذلك انتفاعه بما دعت إليه الرسل، وتضرره بمخالفتهم. وهذا معنى قول بعض العارفين: البصيرة تحقيق الانتفاع بالشيء والتضرر به). ( مدارج السالكين ج1/118 ) ، وقسم مراتبها إلى ثلاث ( بصيرة في الأسماء والصفات وبصيرة في الأمر والنهي وبصيرة في الوعد والوعيد ).

من هنا يتجلى لنا ويتضح أهمية الدراية والفهم والبصيرة في دين الله عز وجل، والتي لابد من السعي الحثيث لتحصيلها وبذل كل شيء من أجلها، نسأل الله العليم البصير أن يبصرنا في ديننا ويسدد فهمنا ويحسّن عملنا ويهدينا سواء السبيل.

لعلنا نلقاكم في حلقة قادمة من سلسلة " البصيرة " إذا كان في العمر بقية .. والحمد لله رب العالمين.

 

أيمن الشعبان

18/7/2010

 

"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"