ها نحن قد شارفنا على انقضاء شهر رمضان، شهر
التوبة والإنابة والغفران، شهر الخير والعبادة والرضوان، شهر الصيام والقيام
والقرآن، شهر الخيرات والبركات، وحصاد الحسنات واجتناب السيئات، شهر الطاعات
والأعمال الصالحات، شهر النفحات والإيمانيات والروحانيات.
إن في رحيل رمضان عبرة لمن رزقه الله
الاعتبار، ومحنة لمن ضيع أوقاته دون اغتنام واستثمار، ومنحة لمن أعانه الله على
تحقيق ما فيه من ثمار، ومنة عظيمة لمن داوم بعده على الطاعات وأكثر الاستغفار،
وموعظة بليغة لمن حاسب نفسه فخشي يوم القرار، ودعا ربه أن يدخله الجنة مع المتقين
الأبرار.
سنفارق هذا الشهر وفي قلبنا غصة وعَبَرات، كما
فارقنا كثير من الأحباب لمَّا نزل بهم هادم اللذات، وهذا حال الدنيا لا تدوم لأحد
فيها المسرات، والسعيد من رزق فيها التوفيق والسداد والإخلاص والأعمال الصالحات، ولم
يغتر بما فيها من ملذات وشهوات وملهيات.
رمضان أجمل دورة تدريبية على مدار العام،
وأنجح معسكر لمن جاهد نفسه وعزم على الثبات والاستقامة والدوام، وأروع مدرسة تبني
القادة والعباد والأعلام، فمن اغترف من نهره الجاري، وقطف ثماره وتجول في بستانه،
واستوعب مكنوناته وعرف أسراره؛ يقينا سينعكس ذلك على روحه وقلبه وجوارحه بعد
انقضاءه.
المحافظة على ثمار رمضان:
السعيد من وفقه الله لصيام هذا الشهر وقيامه
إيمانا واحتسابا، والشقي العنيد من خرج منه كما دخل كالمفلس! والأسعد من حافظ على
ثمار هذا الشهر العظيم، وتمسك بها وتعاهدها وعض عليها بالنواجذ، مع دوام سؤال الله
القبول والسداد.
كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ
إذا عمل عملًا أَثْبَتَه .[1]
قال معلّى بن الفضل: كانوا يدعون الله ستة
أشهر أن يبلغهم رمضان! ثم يدعون ستة أشهر أن يتقبل منهم!
يقول ابن الجوزي عن رمضان: شهرٌ جعله الله
تعالى مصباح العام، وواسطة النظام وأشرف قواعد الإسلام، المشرف بنور الصلاة
والصيام والقيام.[2]
كان سلفنا الصالح يتقنون أعمالهم ويتمونها،
ثم يهتمون بعد ذلك بقبولها، قال أبو الدرداء : لأن أستيقن أن الله قد تقبل مني صلاة واحدة
أحب إلي من الدنيا وما فيها.
وقال عبد العزيز بن أبي رواد حاكيا حال السلف رحمهم الله: أدركتهم
يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهم، أيقبل منهم أم لا؟
تناولنا في هذا الشهر ثمار عديدة ومعاني
فريدة ومزايا عظيمة، من توطين النفس على الاستسلام لأوامر الله ورسوله وترك
المنهيات، وتحصيل التقوى والإخلاص، ومراجعة علاقتنا مع القرآن، وضرورة حفظ اللسان
والوقت، والصبر على الطاعة ومشاق العبادة، والمواظبة على ذكر الله والدعاء.
المداومة على العمل الصالح:
من علامة قبول الطاعة أن توصل لطاعة بعدها،
وعلامة ردها أن توصل بمعصية بعدها، فالحسنة تقول لأختها تعالي، والسيئة كذلك، قال
أحمد: اللهم أعزني بطاعتك ولا تُذلني بمعصيتك.
هنالك توجيه نبوي بأهمية المداومة على العمل
الصالح بعد رمضان، من خلال قوله عليه الصلاة والسلام(من صام رمضان ثم أتبعه ستًا
من شوال كان كصيام الدهر )[3]،
فديمومة الصيام في شوال تجعل المسلم يستشعر أجواء رمضان، بالتالي يبقى محافظا على
ما كان يحافظ عليه طيلة الشهر الكريم.
يقول عليه الصلاة والسلام( إذا أرادَ اللهُ
بعبدٍ خيرًا استعمَلَهُ، قِيلَ: وما يَستعمِلُهُ؟ قال: يفتَحُ لهُ عملًا صالحًا
بين يدَيْ موتِه حتى يرضَى عليه مَنْ حَوْلَهُ ).[4]
يقول ربنا سبحانه( واعبد ربك حتى يأتيك
اليقين )، توجيه رباني بضرورة المداومة على طاعة الله، دون كلل أو ملل، يقول
البقاعي في تفسيره: أي دم على عبادة المحسن إليك بهذا القرآن الذي هو البلاغ
بالصلاة وغيرها.
وعندما سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله
صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: أدْومُه وإن قَلَّ.[5]
قال النووي: وفيه الحث على المداومة على العمل، وأن
قليلَه الدائمَ خيرٌ من كثير ينقطع، وإنما كان القليلُ الدائمُ خيراً من الكثير
المنقطع، لأن بدوام القليل تدومُ الطاعةُ والذكرُ والمراقبةُ والنيةُ والإخلاصُ
والإقبالُ على الخالق سبحانه وتعالى، ويثمرُ القليلُ الدائمُ بحيث يزيدُ على
الكثير المنقطع أضعافاً كثيرة.[6]
ومن روائع سلفنا الصالح في المداومة على
الصالحات؛ أن عائشة رضي الله عنها كانت تصلي ثماني ركعات من الضحى ثم تقول: لو نشر
لي أبواي ما تركتها، وبلال رضي الله عنه كان يحافظ على ركعتي الوضوء، وسعيد بن
المسيب رحمه الله ما فاتته تكبيرة الإحرام خمسين سنة.
ومن أعظم أسباب محبة الله المداومة على الأعمال
الصالحة، كما في الحديث القدسي يقول ربنا( وما يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنَّوافلِ حتَّى
أُحبَّه، فإذا أحببتُه: كنتُ سمعَه الَّذي يسمَعُ به، وبصرَه الَّذي يُبصِرُ به، ويدَه
الَّتي يبطِشُ بها، ورِجلَه الَّتي يمشي بها، وإن سألني لأُعطينَّه، ولئن استعاذني
لأُعيذنَّه ... ).[7]
يقول ربنا سبحانه( فإذا فرغت فانصب )، فَالْمَعْنَى
إِذَا أَتْمَمْتَ عَمَلًا مِنْ مَهَامِّ الْأَعْمَالِ فَأَقْبِلْ عَلَى عَمَلٍ
آخَرَ بِحَيْثُ يَعْمُرُ أَوْقَاتَهُ كُلَّهَا بِالْأَعْمَالِ الْعَظِيمَةِ، (
وإلى ربك فارغب ) أي إليه لا إلى غيره.[8]
همم عالية:
الناس متفاوتون فهمم معلقة بعرش الرحمن وأعلى
الجنان، وأخرى متعلقة بالفروش والقروش والكروش، فمن أي الفريقين أنت؟! ومع أي
الصنفين تكون؟! وقيل قديما: قدر الرجل على
قدر همته، فمن كان عالي الهمة، كان عالي القدر.
وإذا كانَتِ النّفُوسُ كِباراً * تَعِبَتْ في
مُرادِها الأجْسامُ
ولله در ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه،
ما أعلى همته عندما قال له عليه الصلاة والسلام " سلني " فقال: مرافقتَكَ
في الجنَّةِ.[9]
وكذا في قصة عجوز بني إسرائيل صاحبة الهمة
العالية، طلبت من موسى مرافقته بالجنة، أما الأعرابي فطلب ناقة يركبها وأعنز
تحلبها أهله!
وقيل لبعض العلماء: لي سؤال صغير، فقال: اطلب
له رجلاً صغيرًا.
ويضرب لنا ابن الجوزي مثلا بين صاحب الهمة
العالية والهمة الدنيئة، يقول( قال الكلب للأسد يوما: يا سيد السباع، غير اسمي
فانه قبيح، فقال له: أنت خائن لا يصلح لك غير هذا الاسم، قال: جربني, فأعطاه شقة
لحم وقال: احفظ لي هذه إلى غد وأنا أغير اسمك، فجاع وجعل ينظر إلى اللحم ويصبر، فلما
غلبته نفسه قال: وأي شيء باسمي؟ وما كل إلا اسم حسن فأكل ).[10]
يقول ابن الجوزي معلقا: وهكذا الخسيس الهمة،
القنوع بأقل المنازل، المختار عاجل الهوى على آجل الفضائل، فالله الله في حريق
الهوى إذا ثار وانظر كيف تطفئه.
قال ميمون بن مهران : لا خير في الحياة إلا لتائب، أو رجلٍ يَعمل في الدرجات، ومن عداهما فخاسر.
قال بعضهم يحكي حالهَم : كانوا يستحيون من
الله أن يكونوا اليوم على مثل حالهم بالأمس.
اللهم اجعل عملنا كله صالحا، واجعله لوجهك
خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا.
27- رمضان- 1435هـ