تمتمت بصيحات استغاثة ،، كمواء قطة ولدت تواً ,, ضَلت الطريق لثدي أمها ... ..... راحت تهز وتهز جسده ,, تتوسل
إليه ,, ترجوه أن يوميء برأسه ،، أن يرمش ,, أن يحرك حاجبه ,, أن يسعل ,, أن يزفر بوجهها
,, صمتت بعد صرختها التي لم تحرك فيه ساكن ... وقفت عند رأسه لينسكب فيضاً ,, منَ
دمعها اللاهب على وجهه ,, هزت رأسه ,, ضغطت بكلتا يديها الراجفتين ,, على صدره المتيبس
,, أمطرته بوابل من القبل ,, ضمته ,, أرخته ,, نظرت إليه بفمٍ مشدوه ,, وعيون فاضت
بِالدَمعِ ليبلل وجهه وخديها معاً ,, حاولت أن تفرج ما بين جفونه ,, لترى عينيه الراقدتين
خلفهما ,, ضنًا منها أنه غفى ,, أو لعله كعادته معها .. يمزح...
همست بأذنه ,, جدي ,, جدي ,, ألم تقل لي دوماً أني ,, أنا
زهرتك ,, أنا محبوبتك ,, أنا عصفورتك ,, جدي أنا حفيدتك ,, أنا ,, ألست أنا ،، يحتبس صوتها ,, يتعثر ,, يعلو ,, يخبو ,, يفر منها الكلام
,, وهي الثرثارة بعفوية محببه ,, هكذا يولي الكلام دبره هارباً منها ,, حين تريد الكلام
,, تكابد ,, تجهاد ولو بكلمة ,, جدي أنا حفيدتك ,, أجبني بربك ياجدي ،، أجبني يا أغلى حبيب ,, أجبني يا من كنت تسمع همسي ,,
أسمعني يا من كنت لدمعتي مجيب ,, فتلبي نداءي بسيل من الدمع والنحيب ,, رد عليً يا
وتدي ،، رد عليً يا سندي ،، فدنيانا كل ما فيها عجيب ,, رد عليً يا من لا ترضى لحفيدتك
,, أن تحيا وتموت مثلك وحيدةً ,, في هذا البلد الغريب ,, فلا مجيب
...
ضلت تدور حول ذاتها ,, تلف المكان
,, تقفز
,, تجري ,, تحبو ،، تنتصب ,, تتكور مثل جنين غفي برحم أمه ,, تجلس ,, تقف
,, تدنو منه ,, تبتعد عنه ,, تضمه إليها ,, تعبث بشعره الأشيب بكلتا يديها ,, تضع
أذنها على صدره ,, أملاً بسماع نبضةً من قلبه ,, تسمعها بقلبها قبل أٌذنها ...
تلصق خدها على شفتيه ,, لعلها تحضى بزفير أنفاسه ,, ترفع يده وتتركها ,, فتهوي في
حجره ,, تحير ,, تدهش ,, ترتجف ,, خوفاً ,, فزعاً ,, رعباً ,, تحس أن البَرد سرى
ببدنها ,, تشعر بالصقيع تسلل لأطرافها ,, تهذي ,, تٌتَمتم،، تصمت ,, من فرط هول ما حل
بها ,, تتيبس ,, تتجمد ,, والمطر المزمجر بروعنة خلف نافذة غرفتها ،، يتسابق بزخاته المتواصلة لعله يسبق دمعها ...
فتعود لتلتقط أنفاسها عنوةً
،، تتماسك فجأة كأنها عجوز أطال الله بعمرها ,, لتذوق
حسرةَ فقدان جميع أولادها ,, وبعضاً من أحفادها ... لن تقنط ,, ولم تيأس ,, فلم
ينل منها ما هي عليه ,, من خوف ,, وحيرة ,, ووجد ،، وتيه ,, من أن تحاول ,,
وتحاول ,, الى أن أعيا الهم والغم جسدها الهزيل ،، وفاق الأمر قلًة حيلتها ,,
لتهوي ,, لتسقط ,, لتقع في حضنه ,, كورقة شجرة مصفرة ,, أدركها الخريف مبكراً ,,
فلن تجد بدًا من السقوط عن غصنها ،، لتحتضنها حشائش الأرض المصفرةِ أيضا ...
تنتفض ثانية لتجد نفسها قد
وقعت ,, من على سريرها الى الأرض ،، تفتح طرف عينها لتتلمس المكان ,, تفرك بدميتها عينيها
بقوة ,, غير مصدقة أن ما رأته حلماً ,, بل كان بالنسبة لها كابوساً ,, قد أحاط بها
من كل جانب ،، لتفزع ثانيةً حين لم ترى أمها بقربها ,, لا على السرير
ولا على الأرض حيث وقعت ,, فلم تكن معها في الغرفة ,, سوى دميتها الأثيرة على
نفسها ،، ألقت بها جانباً ... تقف منتصبة ,, تمشي ,, تعدو ,,
تنادي أمي ,, أين أنتِ يا أمي ,, فأنا رأيت حلماً مفزعا ,, أني رأيت ...
فتصمت بعدما رأت أمها تحتضن جدها
,, وقد ازرقت
شفتاها ،، والسواد قد أحاط بعينيها الجاحضتين ,, تسمرت عند باب
غرفة جدها ,, كمسمار قديم ,, دق على عتبة الباب
,, فبليت العتبة ,, وهو لم يزل حيث قدر له أن يكون ... تبادلت هي وأمها النظرات ,,
أمطرت أمها بزخاتٍ ,, وزخات من الكلمات ,, تلاقت العيون بالعيون ,, فقد أخاط الحزن
الأفواه ,, وبدأ نطق المآقي بالعبرات ...
أرسلت من عينيها المدميات
بكلمة واحدة ,, حَمًلتها ألف ألف سؤال ،، مرددة ذات السؤال ,, لا
تقولي أمي أنه قد ؟؟ قد مات ,, أجابت عيون أمها قبل أن تغمضهما ,, هرباً من قسوة السؤال
,, نعم بنيتي ,, أنه مات ,, بنيتي أبي قد مات ...
بعينيها أعادت نفس السؤال ,, أ م ي ,, أمي ,, ه ل ,, هل،، م ات ,, مـات ,, أمي هل مـات ,, وجاءها رجع الصدى ,,
نعم بنيتي جدك قد مات ،، زلزلها الرد أكثر بكثير ,,, مما هزها هول الفجيعة ,,
لتطلق العَنان لصرخةً مخنوقة ,, أسمعت بصداها ملائكة السماء ...
هنا أسقط من فرط وجدها الرجاء
,, توسلت
بعيونها عين أمها أن تغلق ,, وفي لمح البرق قفزت في حضنها ،، لتندسَ بخفة العصافيري لعشها ,, محتضنة أمها وجدها معاً
,, وهي تهمس قائلةً بِرَبَكِ يا أمي ,, لا تقولي جدي قد مات ,, فراحت تهذي بذاتها ،، أرحمي ,, أشفقي ,, أتوسل إليك يا أمي ,, لا تقولي أن
أبينا مات ,, بل أقبل قدميك يا أمي ,, وقولي أبي أنا هو اليوم ,, من مات ,, من مات ....
بقلم / جمال أبو النسب
الولايات المتحدة الأمريكية
/ كاليفورنيا
1/1/2013
"حقوق النشر
محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"