أربع زيارات خلال أسبوعين من الزمان ستظل محفورةً في ذاكرتي وحاضرةً في وعيي ما حييت. رحلتان منهما إلى شريحتين من فلسطينيي العراق. الشريحة الأولى في حضن المتوسط، حيث اللاجئون إلى جزيرة قبرص، والثانية في بطن الصحراء، حيث نصبوا الخيام في مخيم التنف بين الحدود السورية العراقية. وزيارتان أخريان لفئتين من فلسطينيي سورية تحييان نشاطين في يومين لقرية الطنطورة ومدينة صفد، في مخيم عين الماء على شاطئ مدينة اللاذقية ومخيم النيرب في مدينة حلب.
تفرقهم الجغرافيا فقط. ويجمع بينهم كثير يصعب حصره. ليست فلسطين التي تجمعهم بعنوانها العريض فحسب، بعد كل سني التشرد. فالمدينة والقرية وحتى العائلة حاضرة، ويتمايزون بها حتى الآن. فرغم قلّة عدد فلسطينيي العراق في المكانين، تجد قرى حيفا الثلاث، إجزم وعين غزال وجبع، حاضرات في كل حديث وسمر، والعوائل في أي مجلس تجتمع فيه حاضرة بين سطور الكلام. فالأواصر الاجتماعية قوية، ولا يحتاج الزائر مخيمَ عين الماء (أو «العائدين» كما يسميه قاطنوه ومستضيفوهم) لشحذ فراسته لكي يرى كم هي حاضرة قرية الطنطورة وعوائلها في أذهان أهلها. يستظلون بكلمة «همّ». يتشاطرونها كل بقسمته. وتتسع أوعيتهم في الصبر عليها كل بقدره.
أصعبهم حالاً، بلا شك، السبعمائة أو يزيد من إخوتنا في مخيم التنف؛ يتوزعون على خِيم بالية متناثرة في رقعة محدودة على جانب الطريق الرئيسي ما بعد النقطة الحدودية السورية باتجاه العراق في المنطقة المحايدة. ظلم إخوة الدم والعروبة واللغة والدين جعل غاية مُناهم أن يصيح المنادي لأحدهم بقبوله في إحدى البلدان في أقاصي الدنيا، أوروبية أمريكية أسترالية لا فرق. المهمّ الخلاص. أُضيف إلى تصنيفهم تسمية البلد الذي استعد لاستقبالهم. فهؤلاء «الإيطاليون» يعتصمون في خيمتهم احتجاجاً على تباطؤ إيطاليا في إجراءاتها، وكذلك سُلّم الرعاية المتدني الذي قبلتهم عليه خلاف الدول الأوربية الأخرى. وهذا الإيطالي الآخر يحتج على السويد التي لم تقبله مع أبيه وأمه وفرقت بين العائلة الواحدة. ويستقبلك نرويجي بابتسامة فرح لا يخفيها هو ولا ابنه حيث اليوم هو يوم الرحيل عن جحيم المخيم. لا يمكن أن يلومهم أحد، فقد تُركوا لقدرهم.
يذكر أهل التنف وهم يتألمون ويعتبون، لأهل الفضل فضلهم، وهذه من شيم الوفاء. يُكبرون عاليا مجهود «لجنة إغاثة فلسطينيي العراق» وعلى رأسها الأستاذ ثامر مشينش، الذي شرفني بمرافقته للمخيم. وتحدثوا عن رحلاته المكوكية بين دمشق ومخيمي التنف والهول (في منطقة الحسكة). وعرفت معنى ما يقولون حين أكد لي مشينش، ابن فلسطين أن اللجنة قدمت لمخيمات فلسطينيي العراق ما يزيد على ثلاثة ملايين دولار خلال السنوات الثلاث الماضية، جمَعَتْها من أهل الخير والفصائل الفلسطينية الجادّة.
لا يعرف أحبتنا ممن يتوقون لبلاد الغرب، ما سيلاقي بعضهم من عنتٍ وكمدٍ وكآبة حال وصولهم إلى تلك المنافي. فقد خَلُص أحد فلسطينيي قبرص ممن قدموا من التنف، إلى أن التنف -على بؤسه- أرحم من واقعه الذي يعيشه في الجزيرة. لم يؤيده الجالسون في ذلك اللقاء الذي جمعني مع قيادات الجمعية الفلسطينية التي ترعى شؤون ألفي فلسطينيي استقر بهم المقام هناك. يشكرون رعاية الحكومة القبرصية، ويشكون معاملة السفارة الفلسطينية، ولا يرون فيها مظلة لهم. ويؤسفنا القول إن هذا الرأي يشاطرهم فيه كثيرون في عواصم العالم المختلفة.
اختلاف الثقافة وصعوبة اللغة وانعدام فرص التعليم الجامعي لأولادهم بسبب ارتفاع تكاليف الرسوم الجامعية. في ظل غياب منظومة القيم عند القبارصة، يخالف كلياً ما هم عليه من حدود التزام عند رجالهم ونسائهم. وفوق ذلك كله، خوفهم شديد من قوة الصَّهر الثقافي على شباب لم يعهدوا مثل هذا.
أما فلسطينيو النيرب وعين الماء، فالهمّ بدرجة أقل بكثير، وهو الغربة والبعد عن فلسطين. إلى جانب ما يمكن أن يتشاطروه مع أهل البلد المضيف. ودائما ما نقول: «من ساواك بنفسه فما ظلم». ولا بد من كلمة ثناء على سورية التي رعت اللاجئين الفلسطينيين ولم يشعروا فيها بمعاناة أكثر معاناة ابن البلد.
شعبنا يحب الحياة، مضيفنا على مائدة الغداء في مخيم التنف حوّل خيمته المتداعية إلى كل ما يمكن أن يُشعر أولاده بأن الحياة باقية، وأن الأمر طبيعي. فما نسمّيه نحن صالون استقبال يفصله جدار قماش عن غرف أخرى عرفت أنها للنوم. تتزين بلوحات تفننت ربة البيت في تزويقها. وابنه يحفظ أجزاء معتبرة من القرآن. وهو يبالغ في كرمه حتى تخال أنه يستضيفك في مزرعة غنّاء مليئة بما لذّ وطاب، سرعان ما تنجلي الحقيقة على غير ذلك، حين تضع رجلك خارج الخيمة مغادراً لتكتشف أنك ما زلت في الصحراء. هو ليس استثناءً، فقد حازت ابنة مخيم الهول، الذي يقطنه فلسطينيون من العراق أيضاً، المرتبة الأولى في امتحانات التوجيهي على مدارس محافظة الحسكة في شمال سورية حيث يقع المخيم.
نختم بالتشديد على أن الهوية الفلسطينية بالخلفية الإسلامية واضحة في الأماكن الأربعة. فما بين خيمة المسجد في التنف والمسجد المركزي في قلب مدينة لارنكا الذي بنته ليبيا يجتمع عنوانان، فلسطين والالتزام.
بقلم . ماجد الزير