ماهر حجازي- دمشق
في هذه الحلقة بين أيدينا واقعة ليست الأولى، لكنها الأولى من نوعها في مخيم التنف الصحراوي بين الحدود السورية العراقية.
الواقعة هي حادثة حريق إحدى الخيام في معسكر التنف، وهي ليست الأولى لأن المخيم تعرض لعدة حرائق، لكنها الحادثة الأولى التي تقع فيها ضحايا بشرية.
أحمد محمد أبو زمك من مواليد بغداد 1983، متزوج وله طفل واحد، من سكان حي الدورة في العاصمة بغداد، قبيل احتلال العراق عمل أحمد الذي لم يكمل دراسته الإعدادية حارساً في السفارة التايلندية في العراق وفي عدد من الأعمال الحرة.
اعتقل جيش الاحتلال الأمريكي والده بُعيد الاحتلال في عام 2005، وزُجّ به في سجن أبو غريب، حيث إنه - كما بات معروفاً - نموذج متطور للحضارة الأمريكية والانحطاط الأخلاقي للجيش الأمريكي، وفضيحة «أبو غريب» ونشر الصور المهينة للأسرى العراقيين وهم عراة أكدا زيف الادعاءات الأمريكية بتحرير العراق، الوالد اعتقل لمدة سبعة أشهر، ليفارق الحياة بعد شهرين من الإفراج عنه في شهر آذار (مارس) عام 2006.
أحمد ليس أفضل حالاً من مئات اللاجئين الفلسطينيين في العراق، فكما هدد غيره «إما القتل وإما الهجرة عن العراق»، هدد أحمد من طريق إحدى الميليشيات التي أمهلته وأسرته 72 ساعة لمغادرة العراق.
هاجر أحمد بعد التهديد وخشيته على عائلته إلى مدينة الحرية في بغداد، ثم قرر بعدها ترك العراق، فغادر مع شقيقته إلى سورية في شهر أيلول (سبتمبر) عام 2009 هرباً من ميليشيات الموت الأسود التي تتربص به وبأبناء شعبه.
الحياة في سورية كانت صعبة ومكلفة فهو يحتاج إلى مورد مالي يكفي لاستئجار منزل والمأكل والمعيشة، وعمل أحمد في مصنع للحلويات، لكن الراتب لم يكن يسدّ حاجته وشقيقته.
بعدها سافر إلى منطقة النبك ليعمل هناك في استراحة للمسافرين حيث استأجر منزلاً في المنطقة نفسها، القسمة والنصيب ساهما في زواجه من فتاة سورية تقطن في منطقة النبك وهي سورية الجنسية، حيث رزقا طفلاً سمّياه محمد.
العودة إلى «التنف» :
أحمد لم يستطع التكيف مع الوضع المعيشي الصعب في سورية، وخصوصاً أنه لا يستطيع العمل بشكل علني لكون وضعه غير قانوني في الدخول إلى سورية، عندها أدرك أحمد أن الخيار الوحيد أمامه وعائلته هو الالتحاق باللاجئين في مخيم التنف، وهذا حال مئات اللاجئين الذين هاجروا من سورية إلى الصحراء حيث مخيم التنف.
في البداية اعترضت عائلة زوجته على أن تذهب ابنتهم معه إلى المخيم، إلا أن الزوجة أبت إلا أن تكون حيث يكون زوجها وطفلها، وبتاريخ 23/12/2008 التحقوا بمخيم التنف الصحراوي لتبدأ مرحلة جديدة في هجرة هذه العائلة الفلسطينية، فالهجرة الأولى كانت عندما نزح والده وأجداده عن قريتهم في قضاء حيفا عام 1948، والهجرة الثانية عند مغادرتهم العراق، أما الهجرة الثالثة فهي اليوم في الهروب إلى الصحراء كملاذ آمن حيث لا عصابات صهيونية هناك ولا ميليشيات شعبوية ولا ظروف معيشة باهظة.
أحمد لم يكن يتوقع أن المخيم بهذه الصورة المأساوية والأوضاع الإنسانية المتدهورة والبيئة الموحشة، فعلاً كانت صدمة له ولزوجته، لكن ابنه محمد (سنة ونصف) لم يصدمه الواقع الأليم، لعدم إدراكه ما يدور حوله وفي أي مكان وزمان يعيش.
الحادث :
كل يوم يمرّ عليهم في هذه الصحراء كأنه دهر، ومضت الأيام القليلة ببطء حتى جاء يوم 13/1/2009.. وبينما هم نيام في خيمتهم، عند الساعة الثالثة والنصف فجراً، والمدفئة الحرارية التي تعمل على الكهرباء موقدة، استيقظ الأب على حرارة ولهب، فالنيران تشتعل في خيمتهم، فما كان منه إلا أن أخرج ابنه من الخيمة، وعاد لإخراج زوجته فوجدها قد تعرضت للإصابة بالكهرباء التي قذفتها بعيداً عن مكان نومها.. استيقظ أهل المخيم وهمّوا بإخماد الحريق، إلا أن المياه كانت متجمدة نتيجة انخفاض درجة الحرارة. وعندما أحضروا مطافئ الحريق كانت النار قد التهمت الخيمة بمن فيها.
أحمد الذي لم يستطع إنقاذ زوجته من براثن النيران التي غدت كوحش يلتهم زوجته أمام ناظريه، هذه الزوجة التي آثرت حياة الصحراء على حياة العز والرفاه، كانت صدمته عندما شاهد جثة زوجته وقد تفحمت واضمحلت معالمها بعد إخماد الحريق.
بعد ذلك قام الأطباء في المخيم بنقل الجثة المحترقة إلى مشفى دوما في سورية لتحليل الجثة والتحقيق في مقتلها مع زوجها، ثم تسليم جثمانها لأسرتها ودفنها في منطقة النبك.
أحمد بات اليوم وحيداً مع طفله في المخيم، لا أمّ، لا زوجة، لا أقارب. وبعد فترة وجيزة من حادث وفاة زوجته التحقت بمخيم التنف والدته وشقيقته للعيش معه، ولكي تعمل الجدة على تربية حفيدها.
الحال الآن :
محمد الحفيد تدهورت صحته بعد وفاة أمه التي كانت تحمل في أحشائها طفلاً في الشهر السادس، وقد طالبت عائلة الزوجة من أحمد أن يعطيهم ابنه محمد ليقوموا بتربيته إلا إنه رفض ذلك. لكن عائلة الزوجة لا تزال تطالبه بالتخلي عن ابنه الوحيد، وهو يخشى أن يأخذوا ابنه منه لكونهم أصحاب سلطة ونفوذ.
أهالي المخيم جمعوا لهم مبلغاً مالياً لإعادة بناء خيمته، كذلك «لجنة إغاثة فلسطينيي العراق» قدمت له مساعدة مالية.
يقضي أحمد أيامه هذه مع ابنه ووالدته وشقيقته في إحدى الخيام، يبيع حصته التموينية لشراء حليب لطفله الصغير، لا مساعدات مالية تقدم لهم، لا علاج طبياً مناسباً للطفل والجدة التي أعياها المرض، الطفل يصرخ «ماما» لكن الجدة هي التي تُلبي صرخاته، فهي الأم التي لم تلده، لكنها الأم التي ستربيه.
كانت الجدة وابنتها قد قوبلتا من قبل وفد السفارة السويدية بغرض إعادة توطينهم في السويد، لكن عند الإعلان عن أسماء من وافقت السويد على استضافتهم لم تُذكر أسماؤهم.
العائلة والطفل بقوا في المخيم، لم يسافروا إلى السويد، تحت رحمة الأوضاع المأساوية وتهديدات تصلهم بانتزاع الحفيد منهم
أحمد.. أخشى أن أفقد ولدي كما خسرت زوجتي.
أحمد.. لا أفكر بالزواج لكن في مستقبل طفلي.
أحمد.. أما من دولة عربية تستضيفني وتسعف لهفتي؟!
أما من مكان بديل من الصحراء التي حرقت زوجتي ويتّمت طفلي وتستعد لتقضي على مستقبلي.
ماهر حجازي – مجلة العودة
ملاحظة : نقل موقع " فلسطينيو العراق " بعد الحريق تفاصيل الحادث الأليم مع تقرير مصور يمكن الاطلاع عليه على الرابط :
عاجل : مصرع امرأة وحرق خيمتهم في مخيم التنف – تقرير مصور