يتناسى
الكثيرون في سعيهم المحموم نحو معرفة تفاصيل ما يجري في جولات جون كيري والأفكار
المتداوله بين أطرافها أن المشكلة هي في مبدأ المفاوضات نفسه أكثر منه في
التفاصيل. المنطق يفترض أن لا يسعى أحد لصنع "السلام" وهو محتل ومهزوم
ومأزوم ولا يملك قيادة تدافع عن حقوقه بالشراسة المطلوبة، ناهيك عن استعدادها
للأستسلام للباطل والأنحناء لمنطق القوة بسهولة.
نقطة الأنطلاق
إذاً في التعامل مع الهجمة الأمريكية ـ "الإسرائيلية" الجديدة هي في
التأكيد على أن لا مصلحه للفلسطينيين والأردن في الدخول في مفاوضات سلام مع "إسرائيل"
بغض النظر عن التفاصيل لأنهم في وضع ضعيف مأزوم ومهلهل وبلا عمق عربي أو إسلامي
مؤثر. ولكن هذا المنطق يفترض أمران: الأول، أن يكون المواطنون الفلسطينيون
والأردنيون قادرين على التأثير على من يحكمهم للإنصياع لرغبتهم تلك في الأحجام عن
الدخول في مفاوضات نتائجها شبه محسومة، وهذا أمر غير قائم. والثاني، أن يتمتع
الحكام المعنيين بدرجة من الحس الوطني تردعهم عن تقديم تنازلات في العمق لصالح
أمريكا و"إسرائيل"، وهذا أمر غير قائم أيضاً . وفي كل الأحوال، على
الجميع أن يعي بأن اجترار الموقف التقليدي في معارضة مشاريع التسوية لقضية فلسطين
أمر يتوقعه القائمون على تلك المشاريع وهو لن يَضُرﱠهم أو يُزعجَهم أو يثني من
عزيمتهم على المضي فيما هم مقدمون عليه ما دامت تلك المعارضة تقليدية ومحصورة
بالكلام والمسيرات والأجتماعات والشعارات ويسقط فلان ويعيش علان.
الخطى الحثيثة
نحو التسويات لم تأتِ فجأة أو من فراغ، بل تعود لعقود مضت. والشاهد الأهم على هذا
المسار هو "المرحوم" هاني الحسن – أحد مؤسسي وقادة حركة فتح البارزين –
عندما أعلن في لندن عام 1991 بأن حركة فتح قد عملت لما يزيد عن عشرين عاماً حتى
توصل الشعب الفلسطيني إلى مرحلة القناعة الواقعية بالقبول بتسوية سياسية مع "إسرائيل"!.
لقد كان من
المستحيل على أي جهة مهما كانت المضي في المسار المؤدي إلى تسوية سياسية مع "إسرائيل"
الا بعد القضاء على نفوذ التجمعات الفلسطينية الرئيسية في الشتات وكسر ظهرها بحيث
لا تعود قادرة على المعارضة الفعلية والمؤثرة لذلك المسار . وهكذا تم كسر ظهر
التجمع الفلسطيني في الأردن عقب أحداث عام 1970، والتجمع الفلسطيني في لبنان خلال
الحرب الأهليه التي ابتدأت عام 1975 وامتدت لمدة خمسة عشره عاماً، انتهاءاً
بالتجمع الفلسطيني في الكويت عندما انحاز ياسر عرفات عملياً تجاه العراق بعد
احتلاله الكويت عام 1990، بالرغم من مطالبة القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة في
ذلك الحين عرفات بعدم اتخاذ أي موقف يمكن أن يُفَسَر بأنه انحياز لطرف ضد الأخر،
لأن الفلسطينيين يكافحون ضد الاحتلال وهم غير مُطَاَلبين بدعم أي طرف عربي ضد طرف
آخر، بل على جميع العرب دعم الفلسطينيين في انتفاضتهم . ولكن عرفات إختار أن
يتجاهل تلك المطالب وكان ما كان وتم طرد الفلسطينيين من الكويت.
وهكذا، وتحت
القيادة الحكيمة لحركة فتح، تم كسر ظهر التجمعات الفلسطينيه الرئيسة الثلاث في
الأردن ولبنان والكويت، وأصبح الطريق ممهداً أمام الولوج في مسارات "التسوية"
التي أدت إلى اتفاقات أوسلو التي أسست السلطة الفلسطينية.
من المحزن
والمؤسف حقيقة أن حركة فتح التي قادت "النضال" الفلسطيني المسلح هي
نفسها التي اختزلته في أهداف انانية سلطوية متواضعة أدت إلى اختصار منظمة التحرير
الفلسطينية عقب اتفاقات أوسلو في ” سلطة فلسطينية “، واختزلت هدف التحرير والاستقلال
في حكم ذاتي برعاية وإشراف الاحتلال ثم تقهقرت في واقعها إلى الحد الذي تنازل فيه
رئيسها ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس عن قبر والده في مدينة صفد الفلسطينية
طوعاً ودون إكراه من أحد وبكل ما يحمله ذلك التنازل من مدلولات سياسية كونه صادر
عن رئيس السلطة الفلسطينية.
إن ثقافة "السلام"
االمبنية على التنازلات هي إختراع فلسطيني فتحاوي تم تطويره مع الوقت ومع تطور
الطموحات الأنانية السلطوية والفساد والإفساد ليصبح نهجاً بل وثقافة يؤمن بها معظم
القائمين على الأمر الفلسطيني بعد أن تم استبعاد أو تصفية كل من يعارض ذلك النهج.
وقد نتج عن هذه الثقافه الإستسلامية اختراعات وأفكار وشعارات تم طرحها وتسويقها
بحيث أصبحت جزءا من الثقافة السياسية الفتحاوية الفلسطينية. ومن أبرز هذه الأفكار
ما تم استنباطه بخصوص القدس وذلك من خلال التلاعب بمسميات وحدود المدينة التي تم
اختصارها أولاً وفي عهد ياسرعرفات في اصطلاح “القدس الشريف” الذي لا يعرف أحد معناه
الحقيقي أو مدلولاته السياسية أو حدود ذلك ” القدس الشريف ” سوى أنه يمكن
اختصاره عند الضرورة بالمسجد الأقصى . وفي عهد محمود عباس تم استعمال اصطلاح
“القدس الكبرى” التي يمكن تقسيمها كيفما شاءت "إسرائيل" ويظل اسمها
“القدس” حتى ولو كانت عبارة عن أحياء مثل “أبو ديس″ مضافاً إليها المسجد الأقصى،
الى غير ذلك أفكار عجيبة غريبة تتشارك فيها أمريكا و"إسرائيل" والسلطة
الفلسطينية والآن الأردن من خلال ولاية دينية غامضة الأهداف على الأماكن المقدسة
في القدس.
الآن وبعد أن
إتضحت بعض معالم خيارات الحل الأمريكي – "الإسرائيلي" لقضية القدس، تبقى
قضية اللاجئين وحق العودة القضية الأكثر وعورة وصعوبة نظراً لامتداداتها التي تشمل
أكثر من دولة، وأبعادها التي تغطي الشعب الفلسطيني أينما وجد في الشتات.
يبدو أن الأفكار
التي تدور في الرأس الأمريكي والعقل "الإسرائيلي" تتمحور حول الالتفاف
على هذه القضية من خلال تفكيكها قطعة قطعة ومعالجة كل قطعة على إنفراد حتى تذوب من
تلقاء نفسها وتفقد زخمها وبعدها السياسي . والوسيلة تكمن في اتباع عدة خطوات
ومسالك قد يكون منها طبقاً لما رشح عن الأفكار المتداولة بين أطراف المفاوضات ما
يلي :-
أولاً : تجنب
التعرض لقضية اللاجئين وحق العودة بشكل مباشر في اتفاق الإطار واعتبارهما لغماً
يتطلب التعامل معه تفكيكه أولاً حتى لا ينفجر بمن يقترب منه.
ثانياً : تفكيك
قضية اللاجئين وتحويلها من قضية شعب الى مجموعات بشرية مقيمة في هذه الدولة أو
تلك، وإفقادها بالتالي صفة الترابط الذي يجمعها كقضية تمثل شعباً فلسطينياً واحداً
فَقَدَ أماكن سكناه وأراضيه نتيجة لإنشاء دولة "إسرائيل" على جزء من
أراضي فلسطين.
ثالثاً : تحويل
قضية اللاجئين من قضية سياسية الى قضية إنسانية والعمل على حَلَها بالقطعة وعلى
هذا الأساس.
رابعاً : توطين
اللاجئين في أماكن تواجدهم بإعتبار ذلك خطوة انسانية وليس سياسية . وفي هذاالأطار
فقد يتم طرح ترتيب مشابه للبطاقة الخضراء في أمريكا (GREEN CARD) بحيث يحصل اللاجئون،
كخطوة أولى، على جميع الحقوق باستثناء السياسية، وعلى أن يتم إعطاء كافة الحقوق في
خطوة لاحقه . أي هضم الحقوق خطوة خطوة منعاً لردات الفعل.
خامساً : تسهيل
وفتح باب الهجرة الجماعية لأعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين الى دول غربية قد
يكون أهمها كندا، مقابل تنازلهم بالكامل عن صفة اللجوء وما يترتب عنها من حقوق بما
في ذلك حق العودة.
سادساً :
السماح بعودة عدد محدود من اللاجئين الى الأراضي الخاضعة لإشراف السلطة
الفلسطينية واعتبار ذلك ممارسة نهائية لحق العودة الى فلسطين حسب القرار 194
الصادر عن الجمعية العامه للأمم المتحدة.
سابعاً : إعادة
تفسير حق العودة بأنه يعني التعويض فقط بإعتبار ذلك أكثر واقعية نظراً لاستحالة
عودة اللاجئين الى المناطق المحتلة عام 1948 . وغالباُ أن ذلك سوف يتم بموافقة
السلطة الفلسطينية والأردن مضافاً إليها الدعم العربي المالي للتعويضات.
ثامناً : العمل
على دفع التعويض الى حكومات الدول المضيفة للاجئين وليس للأفراد لتسهيل عملية
التنازل عن الحقوق في فلسطين وربط التوطين في ذهن حكومات الدول المضيفة بقبض أموال
التعويضات لجعل الأمر أكثر جاذبية وقبولاً.
تاسعاً : العمل
على استصدار قرار جديد من مجلس الأمن لشرعنة ما سيتم الأتفاق علية وبالتالي إلغاء
مضمون القرار 194 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة والقاضي بالعودة أو
التعويض.
ما نحن بصدده
هو حل المشكلة "الإسرائيلية" من خلال تطبيع الوجود "الإسرائيلي"
واعتبار "إسرائيل" دولة شرعية وليس كياناً غاصباً لأرض فلسطين، وبالتالي
إغلاق ملف القضية الفلسطينية بشكل نهائي .
وعلى الشجعان السلام …..
مفكر ومحلل
سياسي
المصدر : رأي اليوم
3/2/2014