كلا انها ليست الساعة ..انه المطر يضرب على نافذتي .. اشم رائحة الارض المبللة بماء المطر .. مطر حقيقي ...مطر يتحدى الجبال ويحفر اخاديد وطرق و يغير ملامحها.. يروي الحقول و الاشجار وتمتلئ الانهار وتحبل الارض فتلد عيون وتتفجر ينابيع .
تمنيت ان يدوم سقوط المطر، لأرقب انهمار المطر.. لأبكي مع المطر .. تمطر السماء في وطني أيضا ، لكنها تمطر ناراً و رصاصاً .. قنابل وغازات سامة .. تمطر دماءاً ودموعاً .
من جديد.. لا تمل الجراح من تمزيق اعصابي ، ويستعد الألم لمهاجمتي بصفوف من الجيوش لا استطيع محاربة تقدمها ، منعني الخجل من البكاء..ليوقف حرق الأوجاع اللعينة لحافات جروحي ، التي بدأت تتقيح وتصدأ وتَسوّد .
ناديتٌ .. ربي :أمدني يا رب بالصبر .. بالسلوان ودعني استرجع الذكريات كي أنهي ليالي الألم بشموخ أمام الغرباء .
أشكو اليك ألمي ويأسي ..تركتني فتات على مائدة الحياة .. منعت الموت عني .. وليتك لم تفعل .. لمن تذرني وحيداً ..
غاب الاحباب .. تفتت عائلتي وعشيرتي ..واستشهد الاصدقاء ...ضاعَ الاخرون في غياهب الغربة بلا انتماء بلا هوية مسلوخي التأريخ .. بذرتني للشقاء .. ان لم يكن بك غضب علي فلا ابالي .
اليوم اكتب لكم مأساة جديدة قديمة لاحد اخوتي واسمه رافت ابو اشرف من مواليد 1973 متزوج ولديه ثلاثة اولاد وثلاث بنات (اشرف وفارس ووليد ولطيفة وهبة ورسل) تبدأ قصته حين استيقظ ذات صباح يوم الاثنين بتاريخ 21-4-2008 فتناول الفطور مع اطفاله وزوجته وكان اخر طعام يتناول معهم لا تزال صورة ذلك الصباح بمخيلته الى هذه اللحظة لم تفارقه ولم يفارقها .
انهى فطوره وقام بمداعبة ابنته الصغيرة قبل ان يخرج متوجها الى عمله وقام بتوديع اطفاله كعادته كل يوم, حين وصوله الى محله الواقع في المنطقة الصناعيه في مدينة الموصل وقع انفجار قوي جدا في المنطقة التي يعمل بها كان موعده المعروف لدى عائلته بعد ان ينهي عمله ان يعود الى البيت عند الساعة الثالثة عصرا ففي ذلك اليوم لم يرجع الى البيت فاتصلت بي زوجته وقالت لي ان رافت لم يعد الى البيت وقد اصبحت الساعة السادسة مساءا وقد اتصلت على جواله ولكنه مغلق!!
لقد صعقتني بهذا الخبر وقد علمت بانه قد وقع انفجار في المنطقة التي يعمل بها فاتصلت باخوتي ونقلت لهم الخبر وركبت سيارتي وتوجهت الى المنطقة الصناعية التي كان يعمل بها وتفاجأت بانهم قد اغلقوا كل الطرقات المؤدية الى تلك المنطقة ولم استطع الوصول فسألت بعض الاشخاص الذين كانوا يقفون ويريدون ايضا ان يدخلوا الى الصناعة فقالوا لي ان انفجارا قويا وقع بالصناعة ويوجد الكثير من القتلى والجرحى وقد نقلوا الى المستشفى ومنهم من بقي تحت الانقاض التي خلفها الانفجار.
فلم يكن بيدي حل الا الذهاب انا واخواني الى المستشفى لعلي لا سمح الله اجده بين الجرحى او لا قدر الله بين القتلى, وصلت الى المستشفى وبصعوبة دخلنا فبحثت بين الجرحى ولم اجده ولم نستطع الدخول الى المكان الذي يضعون به القتلى وقد تأخر الوقت علينا وبدأ وقت منع التجوال فعدنا انا واخوتي كل الى بيته واتصلت بزوجة اخي رافت واخبرتها بان لا تقلق وان كل شيء بخير فلم نستطع النوم تلك الليلة وبقينا مستيقظين حتى الصباح .
وفي الصباح توجهت الى الصناعة ورايت مدى الخراب الذي لحق بالصناعة ولكن لم يكن قريب من محل اخي فحمدا لله ولكن اين هو ؟؟ ذهبت الى المستشفى انا واخوتي وسألنا عن اسمه في المستشفى ولم نعثر على شيء فدخلنا الى الطب العدلي وهو المكان الذي لم ارغب بدخوله لابحث به عن اخي ولكن لم يكن بيدي حل اخر فبحثنا بين الجثث الممزقة والمشوهة ولكننا وجدنا ما تنطبق بعض المواصفات على احدى الجثث من حيث الملابس لأنها كانت مشوهة تماما ولم نقطع الشك باليقين فاختلفنا بالقرار انا واخوتي منهم من قال هو ومنهم من انكر وانا كنت من الذين انكروا.
بعد ذلك عدنا الى بيت ابي واخبرناه بما حصل لم ارغب بان ابلغ والدي ووالدتي بالخبر ولكن زوجة اخي رافت ذهبت اليهم ومعها اطفالها وهي مصابة بانهيار شديد فعدنا مرة اخرى الى المستشفى وقد اخذنا معنا زوجة اخي رافت بطلب منها وبالحاح شديد بان تنظر الى الجثة التي شككنا بانها قد تكون جثته ولم استطع ان امنعها وكان ذلك باليوم الثالث على فقدانه فدخلنا جميعا الى الغرفه التي كانوا يضعون بها الجثث التي لم يتعرف عليها احد.
كان المنظر رهيب لا استطيع ان اوصفه لكم فشاهدت زوجة اخي الجثة وصرخت انها ليست رافت ووقعت مغمى عليها من الصدمة والمنظر الرهيب ولكن المواصفات التي اعطتني اياها سابقا تنطبق عليه نوعا ما ولكنها رفضت الفكرة وقالت ليست هو .
اصبحنا بعد ذلك وبعد مرور اسبوع ونحن كل يوم نذهب الى الطب العدلي ونشاهد الجثة ولم ياتي احد ليتعرف عليها فقررنا بان ناخذ الجثة ونؤمن بالامر الواقع فاتفقنا انا واخوتي على اتخاذ قرار واحد اما ان نأخذ الجثة ونخبر الشرطة بانه اخانا او ان لا نعود مرة اخرى الى المستشفى ونسلم امرنا الى الله بعد ان اصابنا اليأس من سؤالنا الشرطة والجيش وحتى الامريكان دون جدوى فبالنهاية قررنا ان نأخذ الجثة على اساس انها اخونا بعد ان اخبرونا بالمستشفى ان لم نقرر امرنا سوف يأخذون الجثة ويدفنوها مع من لم يتعرف عليهم احد بمكان لا نعرفه فخفت ان تكون لاخي فيعذبني ضميري طوال عمري ، اخذنا الجثة ونصبنا بيت عزاء وسلمنا امرنا الى الله ولا حول ولا قوة الا بالله وكان ذلك يوم الاحد بتاريخ 27-4- 2008.
ولكن زوجته لم توافق على كل ما فعلناه لانها كانت تقول انها ليست رافت ونحن لم نكن نستطيع ان نترك تلك الجثة وقد شككنا بانها لاخينا فقلنا ان لم تكن لاخينا اولا واخرا سوف تدفن هذه الجثة لندفنها نحن ونكسب اجر من الله وننتظر لربما يصلنا خبر ما وان لا نبقى بتلك الدوامة التي ارهقت اعصابنا وعذبتنا وآذتنا كثيرا .
هذا هو الجزء الاول من تلك القصة المؤلمة المحزنة وسوف اوافيكم بالجزء الثاني عن قريب وماذا حدث مع عائلة اخي رافت واين ذهبت زوجته واطفاله وما الذي حدث بعد ذلك واود ان اعلمكم بان هذه القصة موثقة لدى المفوضية السامية للامم المتحدة بالعراق وفي سوريا وحتى في المقر العام للامم المتحدة في جنيف وايضا في مملكة النرويج حيث تقيم حاليا عائلة اخي رافت, انتظروا مني الجزء الثاني لهذه القصة باقرب وقت ممكن بمشيئة الله.
زهير السبع
9/5/2011
"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"