أيُعقل أن يصل الفلسطيني إلى هنا؟! – ماهر حجازي

بواسطة قراءة 5006
أيُعقل أن يصل الفلسطيني إلى هنا؟! – ماهر حجازي
أيُعقل أن يصل الفلسطيني إلى هنا؟! – ماهر حجازي

حكـايـة يوسـف.. من أجل فيزا تنقذه من درب الآلام

ماهر حجازي/ دمشق                             

تحدثنا في الحلقات السابقة من «سلسلة الراصد» لمعاناة اللاجئين الفلسطينيين في العراق عن نماذج مختلفة من حيث المكان والزمان والشخصيات، لكنها متشابهة في المضمون، وفي الحلقة التاسعة سنخوض في تفاصيل قصة اللاجئ الشاب يوسف سعيد، ولكنها قصة محوّرة لأسباب تعود إلى حالة اللاجئ ذاته، ذلك أنّ تفاصيلها تقريبية، فبعضها يحاكي الحقيقة وإن لم يتطابق معها. ويبقى المغزى العام المستقي من الواقع بكل تأكيد.

بداية أودّ أن أطمئنكم إلى صحة الطفل محمد الذي احترقت خيمة عائلته في مخيم التنف، وكنت قد وعدتكم بأن أفعلها هذه الحلقة، هو بصحة جيدة لكنه يفتقد ويحنّ إلى أمه التي غيبتها الصحراء في حادث الحريق.

يوسف سعيد من مواليد مجمع البلديات في بغداد عام 1985، نشأ وترعرع في العراق وأتم دراسته الابتدائية والإعدادية والثانوية حتى التحق بالجامعة التكنولوجية قسم علوم الحاسبات، عائلته ميسورة الحال حيث كانت تمتلك مطعماً لبيع الفول والحمص والشاورما في مجمع البلديات، ما كان يوفّر لهم مردوداً مالياً جيداً قبل احتلال العراق.

بعد الاحتلال والفوضى الأمنية، بدأ مسلسل استهداف الفلسطينيين في العراق، حيث باتت الجنسية الفلسطينية تهمة تستوجب القتل، وأخذت التهديدات تصل إلى عائلة يوسف تنذرهم بمغادرة العراق، وإلا فسيكون مصيرهم القتل كما حلّ بالكثير من الفلسطينيين.

السنة الأولى في الجامعة

مع نهاية الفصل الأول من السنة الأولى وبعد أن أنهى سعيد امتحانه، ذهب وثلة من أصدقائه العراقيين إلى سوق بغداد الجديدة القريبة من جامعتهم للتسوق، وخلال عبورهم في السوق أوقفهم عناصر يرتدون زي الشرطة العراقية وطلبوا منهم إبراز بطاقاتهم الشخصية، عندها قدم يوسف نسخة مصورة عن هويته الفلسطينية، وأوقفوه جانباً بينما غادر أصدقاؤه العراقيون، وأخذ أحد أفراد الشرطة يشتمه: «فلسطيني صدامي حقير».. ثم وضعوا الأغلال في يديه وأركبوه سيارتهم وأجلسوه بينهم، وفجأة ضربه شرطي بمسدس على رأسه داخل السيارة، ففقد يوسف وعيه ثم قامت الشرطة بنقله إلى مكان مجهول.

ولما استيقظ يوسف واستعاد وعيه لم يعرف في أي مكان هو، ولم يستطع تحريك يديه ورجليه المكبّلة بالقيود، وقد سرق الخاطفون هاتفه النقال ونسخة الهوية الشخصية ومحفظته. يذكر يوسف أن أحد الخاطفين دخل عليه وبدأ بضربه وشتمه وتحقيره وتهديده بالقتل. كذلك سألوا يوسف: «كم تساوي أنت عند عائلتك؟ كم يعطوننا فدية مقابل حياتك»، عندها أعطاهم يوسف رقم هاتف شقيقه الأكبر وائل، وبعد ساعات اتصلوا بشقيقه وأخبروه أنهم قد خطفوا يوسف ويريدون فدية مالية مقابل إبقائه على قيد الحياة، وطلبوا مبلغ أربعين ألف دولار. وبعد انتهاء المكالمة أغلقوا جوّال يوسف. في هذه الأثناء كانت العائلة قد علمت باختطاف ابنها قبيل اتصال الخاطفين، حيث أخبرهم أصدقاء يوسف الذين كانوا معه ساعة اختطافه.

يوسف سمع خاطفيه يتحدثون عن أنهم بعد الحصول على الفدية سيقتلونه ويرمونه في مرامي القمامة. مضت الليلة الأولى، وفي اليوم الثاني ألقوا الماء البارد عليه وأخذوا بضربه بأرجلهم وهم مخمورون، وعاود الخاطفون الاتصال بعائلته وأمهلوهم 24 ساعة لإحضار الفدية المطلوبة، وإلا فسيقتلونه فور انتهاء المهلة.

بعيد ساعات قرر الخاطفون نقل يوسف إلى مكان أخر، أخرجوه من المنزل ووضعوه في سيارة مقيد اليدين وانطلقت السيارة. وخلال تنقلهم سمع أحد الأشخاص يقول إنه يجب تسليمه لمجموعة أخرى من أجل تسلّم الفدية ثم قتله..

الهروب

عند الوصول إلى المكان المتفق عليه بين الخاطفين، وعندما همّ الخاطفون بنقله من سيارة إلى أخرى، قرر يوسف الهروب، فهو ميت في جميع الحالات، وتمكن من الإفلات من أحد الخاطفين وأخذ يركض بالاتجاه الآخر للشارع الموجودين فيه، عندها أخذ الخاطفون بإطلاق الرصاص عليه ولحقوا به، لكن سيارة كانت تعبر الطريق صدمت يوسف وقذفت به إلى الرصيف، عندها ظنّ الخاطفون أنه قد مات وأخلوا المكان فوراً.

يوسف فقد وعيه، وعندما استيقظ وجد نفسه في مستشفى حكومي وبجانبه رجل وامرأة قالا له: «لا تخف فأنت مثل ابننا». الرجل والمرأة أنقذا حياته ونقلاه إلى المستشفى وأدخلاه على أنه عراقي لأنه لم يكن يملك ما يثبت شخصيته وقد دفعوا مبلغاً للمستشفى، كما تعاطف الرجل والمرأة معه، واتصلا بصديق يوسف (الوحيد الذي يحفظ رقم هاتفه)..

وحضرت عائلة يوسف إلى المستشفى، وعندما تحسنت صحته قليلاً نقلوه إلى مشفى خاص لمتابعة علاجه، وكانت نتيجة الحادث كسراً تاماً في الرجلين.

أُجريت عملية جراحية لقدمه اليسرى التي كانت حالتها خطيرة، ثم أُجريت عملية للقدم اليمنى، وفي أثناء العملية وُجد التهاب في ساقه، وقضى أسبوعين في المستشفى، ثم قررت عائلته نقله إلى المنزل لمتابعة العلاج خشية تعرضه للاختطاف مرة ثانية من داخل المستشفى. وخرج إلى البيت وكان الطبيب يقدم له العلاج يومين في الأسبوع.

حالته النفسية تدهورت، وأثقل كاهله التفكير بالمستقبل والجامعة، حياته كانت فقط أكلاً ونوماً وعلاجاً وطبيباً، أول ثلاثة أشهر من العلاج قضاها ممنوعاً من التحرك ولو خطوة واحدة حتى يلتئم العظم.

بعد عدة أشهر من العلاج قرر الطبيب له أن يمشي على رجليه وأن يتلقى علاجاً طبيعياً للعضلات وأن يستخدم يوسف في مشيه العكازين.

معظم زملائه في الجامعة علموا بقصته وقد عرفوا أنه فلسطيني، وأدركوا سبب إصابته، وأصبح يعرف حينها باسم «يوسف الفلسطيني»، وهذا ما كان له تأثير خطير عليه في السنة الثانية. 

السنة الثانية في الجامعة

في السنة الجامعية الثانية داوم وهو يستخدم العكازين، واستأجر له أهله سيارة خاصة لنقله من الجامعة وإليها، حيث كان يداوم ثلاثة أيام في الأسبوع لجمع المحاضرات. كانت الأوضاع الأمنية متدهورة، واقتحمت المغاوير العراقية مجمع البلديات الذي يسكن فيه يوسف خلال فترة امتحانات الفصل الدراسي الأول من السنة الثانية واستخدموا الأعيرة النارية وأطلقوا قذائف الهاون، عندها لم يذهب للامتحان.

خلال الفصل الدراسي الثاني ازداد التدهور الأمني، واستهداف الفلسطينيين في العراق، ووصلت رسائل تهديد له ولأشقائه في مطعمهم، وبعدها تعرضت مجموعة من المسلحين لهم في المطعم واستفزوهم بشكل مباشر، حيث كان يعمل مع أشقائه بأعمال بسيطة لتوفير مستلزمات الدراسة..

وازدادت التهديدات لهم من يوم لآخر، وفي أحد الأيام قدم إلى منطقتهم مجموعة من المسلحين يرتدون الزي الأسود، وكان يوسف وأشقاؤه قد أغلقوا المطعم، حيث سألوا عنهم وعن سبب إغلاقهم المطعم، وبعد يومين أطلقوا الرصاص على المطعم، ولكن لم يكن فيه أحد.

عندها قررت العائلة مغادرة العراق، وكان منزل أخيه وائل قد أحرقته الميليشيات وحاولوا قتل وائل لكنهم لم يجدوه في المنزل.

عندها أدركت أسرة يوسف أن لا أمان لهم بعد اليوم في العراق، باعوا أملاكم بأرخص الأثمان وقرروا ترك العراق، وقد كلفوا أناساً ببيع ممتلكاتهم وترك يوسف دراسته في الجامعة كغيره من الطلاب الفلسطينيين.

حالهم اليوم

غادروا إلى سورية ولا تزال معاناتهم مستمرة، أخته الكبرى تبحث جاهدة عن عمل، تارة تعمل في خياطة الثياب وأخرى في معامل البسكويت، علماً بأنها خريجة جامعية. ووالدته تدهورت حالتها الصحية.

يوسف اليوم يفكر ملياً بتوفير حياة كريمة له ولعائلته، وبالأحرى لمن بقي له من أسرته: أمه المريضة وشقيقته الباحثة عن فرصة للحياة.

أدرك يوسف أن فرصته للخروج بعائلته من الموت الذي تعيشه نحو الحياة، فقرر السفر واللجوء إلى دولة ما بغرض الحصول على الإقامة وإنقاذ أسرته وإكمال تعليمه لتحقيق طموحه في أن يكون مهندساً في الكمبيوتر.

 

1/7/2009