قلبك المهشم كيف تهشم علي جابر الفيفي

بواسطة قراءة 3755
قلبك المهشم كيف تهشم علي جابر الفيفي
قلبك المهشم كيف تهشم علي جابر الفيفي

حادث تتكسّر فيه العظام ، إهانة تتحطّم منها النفس ، فقر تنحني معه الروح ، مرض تنهار عنده القوى ، عقدة تحاصر الطموح ، رُهاب يخنق عفويّتك ، كُره تتمرّد معه أحاسيسك ، ظروف تجعلك تنكّس رأسك !

وبقدر هذه الانكسارات تتفتّح أبواب السماء بضمادات الرحمة ومجبّرات الودّ !

كم من يتيم تكسّر نفسه نظرة صاحبه المتغطرس .. ولولا الجبّار لانشرخت نفسه للأبد ..

وكم من ضعيف صفعته الحياة بيد أحد الأقوياء .. لولا الجبّار لظلّ منحني الرأس طول الحياة ..

وكم من فقير أذلّته كلمة قالها أحد الأثرياء .. لولا الجبّار لبقيت تلك الكلمة وصمة يعيّر بها طيلة عمره ..

يجبر الكسير .. ويساعد الضعيف .. ويرفع من شأن الصغير .. ويقدّم المتأخر .. تضمّد رحماته جراح النفوس ..

التحليليّون من علماء النفس يزعمون أنّ الكبت يولّد العقدة ، والعقدة تترك آثاراً عميقة في النفس ، مما يجعل تلك الآثار تظهر في تصرفات صاحبها وفي انفعالاته .. ويزعمون أن من عانى قسوة الأب فإنّه يتحوّل إلى نسخة شبه مطابقة وكأنّه ينتقم من أبيه في أبنائه ! يزعمون أنّها آثار خالدة في النفس .. من المستحيل أو شبه المستحيل أن تفارق صاحبها ..

ومع هذا نعرف نحن أشخاصاً عانوا من قسوة آبائهم ومع ذلك خرجوا غاية في الرحمة ..

عانوا من سخرية أقرانهم .. ومع ذلك صاروا متميّزين ناجحين ..

عانوا من الأنيميا .. والسل .. وحساسية الصدر .. وكبروا فصاروا أصحاء أقوياء ..

أين تلك العقد .. وأين آثار تلك الأمراض ؟ لقد جُبرت .. لقد أخفتها ضمادات الرحمة .. لقد قدّر الجبار أن تختفي ..

شُرع لنا أن نقول بين السجدتين : " اللهم اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني واجبرني .. "

( واجبرني ) وكأننا نتكسّر في اليوم كثيراً فنجتاح أن يجبرنا الله كثيرا ..

قبل حوالي ثمانية عشر سنة ماتت ابنة أختي الوحيدة بين يديها ، صرخت صرخة اختناق سمعتها من الغرفة المجاورة ، كانت الصرخة الأخيرة ! ، فدخلتُ على أمّها قبيل الفجر وفي قلبها من الحزن والانكسار ما نمّت عيناها وتنهداتها به ..

فدلَلْتها على الدعاء الوارد " اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها" فقالت ذلك الدعاء وصوتها يتهدّج من وقع المصيبة .. فارتفعت كلماتها المنكسرة إلى من يجبر كسر عباده فعوّضها عن ابنتها اليوم  ببنين وبنات رزقها الله برّهم وأفضل عليها وعلينا من عطاءاته ..

إذا التهبت نفسك .. إذا احترقت أحلامك .. إذا تصدّع بنيان روحك فقل : يا الله ..

في العام الفائت التقيت طالباً لديه عُقدة في لسانه ، لا يكاد ينطق بكلمة دون أن يعيدها عدّة مرات ! أمسكته ونصحته أن لا يسجد سجدة لله إلا ويدعو : واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي ..

التقيته هذه السنة فإذا به كأفصح ما يكون .. سألته _ وقد نسيت نصيحتي _ عن السبب .. فقال : دعاء : واحلل عقدة من لساني !

لقد حلّ الجبار تلك العقدة ..

إنّه الجبّار .. ما من أسى إلا وهو رافعه ، وما من مرض إلا وهو شافيه ، وما من بلاء إلا وهو كاشفه ..

تتزاحم الآلام في قلب العبد حتى ما يظن أنّ لها كاشفة ، فإذا بالجبّار يجبر ذلك القلب .. وبعد أشهر ينسى العبد كل آلامه وأوجاعه لأن الله لم يذهبها فحسب ..بل جبر المكان الذي حطّمته .. فعاد كأن لم يتهشّم بالأمس ..

يجبر القلوب والعظام والنفوس ويداوي الجراح يكفكف الدموع سبحانه ..

إذا رضّتك الهموم ، وغشيتك الكروب.. فلا تطل البكاء .. سجّادة توجّهها إلى القبلة .. تقضي على تلك الهموم والكروب في لحظات ..

جلس بانكسار بعد صلاة المغرب يستغفر الله ، جيبه خاوٍ إلا من ريالات لا تصنع أمام احتياجات الحياة شيئا .. يكاد الناظر إليه من بعيد يدرك مدى الفاقة ، وكميّة الخدوش المتناثرة في نفسه .. ولكن الجبار كان ينظر إليه من أعلى سماواته .. فما كتب عليه تلك الليلة أن ينام إلا وقد سدّ فاقته بما لم يكن يتوقّعه أو يتخيّله ..

يحبّك سبحانه مبتسماً ، فيصنع من جميل أقداره ما يعين ثغرك على الافترار .. ويجعل الابتسامة تطرد ملامح الكرب عن وجهك ..

إذا رأيت منكسراً فاجبر كسره .. كن أنت الذي يستخدمك الله لجبر الكسور .. لا تنم وجارك جائع ، لا تضحك وأخوك يبكي ، لا تنعم بدفء بيتك وهناك من هدهدت رياح الشتاء أبدانهم الضعيفة ..

يقول أحدهم : رأيت عجوزاً تدفع عربة بقرب الحرم مليئة بالحاجيّات ، كانت السنوات قد شقّقت جلدها بما فيه الكفاية .. رأى فيها أمّه .. فبكى كل شيء فيه .. وكان آخر ما بكى عيناه .. أخرج كل ما فيه جيبه ودسّه في يدها ونفسه تكاد تسقط من الحزن على تلك المسكينة ..

يقول : لم يدر بخلدي أني أتكرّم عليها .. أو أن الشكور الحميد سيشكرني .. كنت فقط أرتق شرخاً جلبته صورتها المنكسرة في نفسي .. ولم أفلح !

لم يمض ذلك الشهر إلا وأضخم مبلغ يحصل عليه في حياته مودع في حسابه البنكيّ !

لن يدعك الله تجبر كسور الضعفاء ثم لا يشكرك .. فهو الشكور الحميد..

 

كن بلسماً إن  كان دهرك أرقـمـا      وحلاوة إن صــــــار غيرك علقما

 

كن النافذة التي يتسلل منها الهواء الشفيف على النفوس التي خنقتها أدخنة الحياة الصعبة .. تخلّق بخلق الجبر .. كن اليد العليا ..

يزور النبي صلى الله عليه وسلم اليهودي المريض ..

يكنس عمر بن الخطاب بيت العمياء ويطبخ لها طعامها ..

يموت عبد الله بن المبارك فيفقد الفقراء تلك الأرزاق التي كانت توضع عند أبوابهم قبيل الفجر .. فيعلمون بعد موته أنّها منه!

يموت أعدى أعداء ابن تيمية فيبشّرونه بذلك ، فيغضب ويذهب مباشرة إلى أهل وأبناء الميّت ويعزيهم ويقول لهم : أنا كوالدكم .. لا تحتاجون شيئاً إلا وأخبرتموني ..

كانوا منشغلين بالمهمّة العظيمة .. مهمّة جبر القلوب المنكسرة .. كان الله يستخدمهم لذلك الشرف العظيم ..

أخبرني صاحبي وقد كان طالباً في جامعة أم القرى أنّه وفي طريقه إلى الجامعة لقي معتمراً يسأله عن مركز الشرطة ، أخبره صاحبي أنّه مستعجل فموعد مادّة النقد قد شارف على البدء والتي كان الأسبوع القادم هو موعد الاختبار (الصعب ) فيها .. ومع ذلك فقد أركبه ليقرّبه من وجهته .. وفي السيارة أخبره أنه وقبل ثلاثة أيام فقد في الحرم محفظته وجوّاله وجواز سفره وكل ما يثبت شخصيّته .. أصبح مجهول الهويّة ، لا يستطيع الأكل ولا المبيت ولا التواصل مع أحد !! .. قال ذلك المعتمر لصاحبي : لقد تعتبت _ وعند هذه الكلمة بالذات أجهش بالبكاء _ ثلاثة أيام وأنا أشخذ الناس وأنام في الشوارع .. كان منكسراً بدرجة كبيرة ..

يقول صاحبي إنّه واساه ، وذكّره بالله ، وقال له : إنّ الله لم يُفقدك هذه الأشياء في الحرم حتى تذل لغيره .. فقط اسجد له واطلبه وسوف يحبوك .. ثم أعطاه ثلاثة وثمانين ريالاً .. هي كل ما وجده في جيبه .. وأنزله وقد رأى ملامح الابتسامة على ثغره ..

بعد أسبوعين ظهرت درجة اختبار "مادّة النقد" والذي لم يحلّ فيه أي فقرة لصعوبته ، وقد وطّن نفسه للرسوب فيها لأنه يستحق فيها الصفر ! فإذا بها ثلاث وثمانين درجة من مئة !

نعم .. أشياء كلّما حاولت أن تنكر وجودها .. ظهرت بشكل أوضح وأصرح .. كلما قررت ألا تسمعها صرخت بصوت أكثر إذهالا وإدهاشاً .. إنّه الله يا صاحبي إنه الله ..

لمّا استعمله الله في جبر كسر ذلك المعتمر شكره ..

كانت جدران السجن الرماديّة وسوط الجلاد وسنين العذاب ترهق كاهل سيّد قطب .. فينام والكرب واقف عند رأسه .. فيرسل إليه الجبّار رؤيا .. ينفض بها كل تلك الخرافات .. فيستيقظ ولا حقيقة في نفسه إلا الجنّة .. فتشغله الجنّة وذكراها عن تأمّل أوجاع روحه وجسده .. فيكتب رسالته لأخته حميدة " أفراح الروح" ... يكتب عن أفراح الروح والسياط تنقش على ظهره عروق الدماء .. ولكن رؤيا تجعل كل شيء برداً وسلاماً ..

فالزم يديك بحبل الله معتصماً            فإنّه الركن إن خانتك أركان

إذا طرقوا أبواب الملوك .. فاطرق أنت باب الملك الأعظم

إذا وقفوا بذل فوق ساحة أمير .. فقف أنت بساحة الإله الأكرم

إذا سافروا من مستشفى إلى مستشفى .. فقم بالليل وقل : يالله ..

بيده مفاتيح الفرج .. الشفاء له خزينة عظيمة القدر والحجم .. أتعلم أين هي تلك الخزينة ؟ إنها عند الله .. " وما من شيء إلا عندنا خزائنه"

السعادة كذلك لها خزينة ..

الرضا .. الراحة .. الأمان .. أتترك من بيده ملكوت كل شيء .. وتنصرف إلى عبد  لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّا ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا ؟

وإن كان ملكاً أو أميراً أو وزيراً ..

كم هو مضحك أن يترك زائر الملك الانشغال بالحديث مع الملك ليدخل إلى حجرة الخادم ويتحدّث إليه ..

نحن نفعل ما هو أكثر إضحاكاً من هذا حين نترك مناجاة الملك سبحانه وطلبه ما نريد ونذهب في رحلة علاجيّة إلى واشنطن أو انجلترا ونعود بعد أشهر معنا الخيبة والخسارة وتابوت فيه ميّت !

عش أياما مع الجبّار .. أمرّ هذا الاسم على جروحك .. اجعله البلسم لعذابات روحك .. أيقظ به أزاهير الفرح في نفسك .. اصنع بتأملاتك فيه شمس حياة .. تقضي على مكروبات الخواء الذي كنت تعيشه ..

ينزل رسولنا صلى الله عليه وسلم من الطائف محمّلا بقدر عظيم من الحزن والحرقة والانكسار .. بعد أن أدمى صبيان الطائف عقبيه الشريفتين بالحجارة .. يراه ملك الملوك .. ملك الدنيا والآخرة .. يراه حبيبه سبحانه .. يرى قلبه المكتظ بالآهات .. فيرسل جبريل معه ملك الجبال .. لينهي تلك الحُرَق .. يرسله في مهمّة خاصة .. مهمّة تتعلق بدكدكة الجبال الراسية ..

فينظر ملك الجبال إلى مكة التي تسبب أهلها في خروجه وتعرّضه لكل تلك الآلام فيقول : أمرني الله أن أمتثل لأمرك يا محمد .. فإن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت ..

إذا أراد أن يجبر كسرك .. أهلك مدينة بأكملها لأجلك ..

ولكنّ محمداً عليه الصلاة والسلام يستأني بهم ويعفو عنهم ..

عندما لذعت السخرية بسياطها الحارقة قلب نوح .. نظر إلى السماء ودعا ربّه : إني مغلوب فانتصر .. ففتح الملك سبحانه أبواب السماء بماء منهمر ..أغرق الكرة الأرضية لأجل نوح عليه السلام ..

هل يستطيع غير الله أن يجبر كسور الروح بمثل هذا ؟

بعض الأشخاص يظنون أن من مهماتهم تدميرك ..

السخرية بك ..

إظهارك بحجم صغير جدّاً أمام رفاقك ..

لولا الجبّار لطحنتك مكائدهم ..

يدخلون إلى عينيك ويسرقون أجمل أحلامك ..

وكلما انتزعوا حُلماً ، خلق الله لك حلما أجمل ..

وقد زوّد الجبار حياتنا بمجبّرات ومضمّدات وأدوية .. نعلم بعضها ، ونجهل أكثرها خلقها وأودعها في كونه لأجلك .. حتى تبتسم ، وتعيش حياة كريمة .. حتى تتفرّغ لعبادته ..

تلتئم جروحنا عندما نتعاطى الدواء الناجع لها .. وعندما نأكل الطعام الصحّي .. وعندما نشرب الماء النقي ..

تصحّ أرواحنا لمّا نرى الابتسامة في أوجه الآخرين .. وحين نشعر بأكفّهم تربت على أكتافنا .. وعندما نسمع الكلمة الطيبة ..

نتجاوز عقدنا عندما نصادف قلباً ينبض بحبّنا .. ويدا تمتدّ لمساعدتنا .. وفنجان قهوة نرتشفه بمعيّة من نقدّر ..

هناك أشياء تلتئم في داخلنا عندما ننظر للطبيعة الجميلة .. ونسمع خرير الماء .. ونحدّق في العصفور وهو يُطعم فراخه ..

الصلاة تردم هوّة اليأس في أرواحنا .. وسبحان ربي العظيم تخلق فرحاً نجد طعمه في ألسنتنا .. وسبحان ربي الأعلى تحلّق بنا حول العرش ..

دعوات الوالدة دفء في شتاء الحياة .. وزيارة الصديق متعة في صخب العيش .. وسؤال الجار عنك يلوّن لوحة نفسك الرماديّة ..

عصير البرتقال يجبرك على الابتسامة .. وقطعة الحلوى التذاذ خاص .. والحمّام الدافئ شعور بانحسار الأتعاب ..

الحياة مليئة بالمجبّرات .. وربنا يريدنا أن نسعد .. أن نبتسم .. أن نحيا حياة جميلة

أخيرا : ما الذي يبطّئك عن الله ؟

ما الذي يجعلك تتأخر في الانضمام لركب الأوّاهين الأوابين .. الذين يتغنّون بكلامه في جوف الليل ..

شكل الجنين في بطن أمه قريب جدا من شكل الساجد لله !

فكن في حياتك ساجداً كما كنت في بطن أمك .. يكفيك الله رزقك ويجعل أضيق الأماكن أهنأها .. ويحيطك برحمته ..

كن ساجداً بقلبك .. وإن رفعت رأسك ..

قل بنبضاتك : سبحان ربي الأعلى .. وإن كنت ضاحك الثغر ..

اهمس بشرايينك : يا جابر المنكسرين اجبر كسري .. ثم تأمّل في المعجزة وهي تشكّل روحك من جديد ..

 

علي جابر الفيفي