الوصف لم يأت عبثاً ولم يكن مجرد تلاعب بالألفاظ، وإنما جاء عن سبق
إصرار وترصد وهدف ليس فقط إلى طمس الحقيقة، والتغطية على حجم الكارثة أو النكبة
الثانية، وإنما إلى قطع الطريق على الآثار السياسية والاستراتيجية لما جرى صبيحة
الخامس من حزيران يونيو 1967.
ما وقع صبيحة ذاك اليوم الحزيراني ليس أقل من نكبة ثانية حلّت
بفلسطين والعرب، بعد النكبة الأولى في العام 48 فاحتلال كامل فلسطين التاريخية،
إضافة إلى سيناء والجولان وانهيار ثلاث جيوش عربية أمام جيش الاحتلال في ساعات
معدودة، ليس سوى نكبة موصوفة وقبول العرب بقرار 242 وتحول الصراع من صراع وجود إلى
صراع حدود، ليس سوى نكبة ثانية ,واختزال فلسطين بالضفة الغربية وغزة والقبول
الضمني بالتنازل عن حق العودة للاجئين ليس أقل من تكرار، وربما تكريس للنكبة
الأولى التي حلت بهم في أيار مايو من العام 1948.
فهم القادة آنذاك، وخاصة في مصر التي قادت الحرب بشكل أساسي وسورية
التي خسرت الجولان رغم كل حقائق الجغرافيا والعلوم العسكرية، حقيقة ما جرى ولكنهم
سعوا عن عمد إلى التقليل من وقع الكارثة والتهوين من أمرها لعدة أسباب؛ أولها
تحاشي أي رد فعل شعبي وجماهيري مماثل لذاك الذي حصل بعد النكبة الأولى، خاصة أن
تلك الأنظمة وصلت إلى السلطة بحجة إزالة أثارها ولكنها تسببت بعد أقل من عشرين عام
بنكبة أخرى، ولم يكن بالإمكان طبعاً مصارحة الشعوب بالحقيقة، خاصة في ظل الأنظمة
العسكرية الاستبدادية التي حكمت في تلك المرحلة.
الدافع المهم الآخر وراء التهوين، مما جرى يتعلق بالتهرّب من
استخلاص الاستنتاجات الشخصية والسياسية المناسبة، مما جرى لجهة تحمل المسؤولية
ومراجعة كل ما جرى في المرحلة التي سبقت النكبة والتي كانت تقتضي بالضرورة استقالة
المسؤولين، وحتى محاكمتهم ولو سياسياً وإعلامياً بتهمة التقصير والتهاون في
الإعداد للمعركة وإدارتها إضافة إلى الإقرار بفشل الأنظمة العسكرية الاستبدادية،
التي حكمت بالحديد والنار، قهرت المجتمعات وكبلتها، وكل هذا بحجة مواجهة الاحتلال "الإسرائيلي"
وإزالة أثار النكبة الأزلي، ووصل التبجح والغرور حتى إلى درجة التهديد بإلقاء
اليهود في البحر.
وهنا يبدو التساؤل مشروعاً ومنطقياً، ماذا لو أصر ناصر فعلاً على
الاستقالة ولم يكن الأمر ذرّاً للرماد في العيون، أو تخدير للجماهير وتهدئة غضبها،
هل كان حافظ الأسد ليرقى بنفسه إلى رئاسة الجمهورية، بعدما فشل كوزير دفاع وهل كان
القذافي ليصل إلى السلطة في ليبيا ويستمر فيها لأربعين عام حارقاً الأخضر واليابس،
وهل كان صدام حسين ليصل إلى حكم العراق فيدمر ثرواته ويعيث فيه
فساداً ودماراً قبل أن يسلمه على طبق من ذهب إلى الاحتلال الأمريكي والطائفيين
الصغار، الذي عادوا لحكم بلدهم على ظهور دبابات الاحتلال.
ولو جرت عملية المراجعة واستخلاص العبر الشخصية والسياسية
الملائمة، هل كان لمهرج مثل أنور السادات أن يصل إلى السلطة ناقلاً البلد بجرة قلم
إلى حيث يشاء سياسياً واقتصادياً أو لشخص عديم القدرات مثل حسني مبارك أن يصل إلى
حكم أكبر دولة عربية، ويبقى في سدة الحكم لثلاث عقود؟ وهل كان نظام العسكر
الاستبدادي الفاسد ليستمر في حكم الجزائر مخرجاً واحدة من الدول العربية الكبرى من
دائرة الصراع مع "إسرائيل" أو على الأقل من معادلة القوة العربية؟ وهل
كان الشاويش علي عبدالله صالح ليصل إلى السلطة متحكماً ببلد عريق مثل اليمن لأكثر
من ثلاث عقود؟ وهل كنا لنصل إلى كامب ديفيد مدريد أوسلو ووادي عربة؟ وهل كانت
القضية الفلسطينية لتشهد هذا التراجع والتجاهل؟ وهل كانت أصلاً لتستمر كل هذا
الزمن.
الأنظمة التي تسببت بالنكبة الثانية، خاصة في مصر وسورية وعدت
شعوبها بالخبز الحرية العدالة الاجتماعية، وقبل ذلك وبعده بإزالة أثار النكبة
الأولى مع إلقاء اليهود في البحر، طبعاً وبعد عقود من إهانة وإذلال وإفقار الشعوب
تسببت بنكبة ثانية، وأضاعت فلسطين كلها دون أن تمتلك شجاعة الاعتراف أو تحمل
المسؤولية والإقرار بالخطأ، وبدلاً من أن تتغير - وفق مقولة غسان كنفاني الشهيرة
بعد فشلها في الدفاع عن القضية - قررت تغيير القضية نفسها والانطلاق من حدود
النكبة الثانية لتسوية الصراع مع "إسرائيل" بدلاً من إلقائها في البحر.
كانت النكبة الثانية جرس خطر مدوّي للعالم العربي برمته، ولكن
للأسف تم تجاهله عن سبق إصرار وترصّد ولذلك لم يكن غريباً أن تتوالى النكبات بعد
ذلك من العراق الى السودان والجزائر
مروراً بالصومال واليمن بينما امتلكت الأنظمة الاستبدادية واستنساخاتها الجرأة
الوقاحة، ليس فقط للبقاء في السلطة، وإنما التصرف كان شيئاً لم يكن وتحويل الأنظمة
الجمهورية الثورية إلى ملكيات رجعية مقنعة.
بعدما تم إسقاط الأنظمة التي تسببت بالنكبة الأولى في خمسينيات
القرن الماضي، كان لا بد من إسقاط الأنظمة التى تسببت بالنكبة الثانية، وتشبثت
بالسلطة، رغم ذلك وهذا عين ما فعله ميدان التحرير المتنقل من جمهورية عربية إلى
أخرى، لأن الجماهير فهمت أن من فشل في امتحان الخبز الحرية والكرامة لا يمكنه أن
ينجح في امتحان فلسطين، وأن من تسبب بالنكبة الثانية لا يمكنه بالضرورة إزالة أثار
النكبة الأولى.
المصدر : وكالة معا الإخبارية بتصرف موقع
فلسطينيو العراق
20/6/2013