يكاد يكون التنافس الإعلامي والمسارعة للحصول على مكاسب من خلاله؛ الأكثر وضوحا في عصر التطور والرقي والتكنولوجيا لما لهذا التقدم الغير مسبوق وتنوع التقنيات الأثر الكبير في المجالات المتنوعة خصوصا الجانب الترويجي المتمثل بالإعلام المرئي والمسموع والمقروء بل والالكتروني، وما كثرة الفضائيات إلا دليل واضح لذلك.
لقد لعب الإعلام دورا أساسيا في تثقيل وترجيح كفة العديد من القوى، بل في الحصول على نتائج سريعة لم تكن في الحسبان، وكلنا شاهد كيف احتلت أميركا وحلفائها العراق عام 2003 إعلاميا قبل احتلالها عسكريا، وكيف كان لهذا الدور الإعلامي لتلك الأقطاب العالمية ناهيك عن الإنزلاق لدى الكثير من وسائل الإعلام العربي لتخدم مصالح الأعداء شعروا أم لم يشعروا، وما أكذوبة أسلحة الدمار الشامل في العراق التي بني عليها كل ما حصل من دمار وتحطيم لحضارة العراق العريقة عنا ببعيد.
مما لاشك فيه ما للإعلام هذه الأيام من أهمية بالغة في صياغة المجتمعات وتشكيل أفكارها وبناء التوجهات، ورسم الخطط والمستقبل، حتى أضحى الإعلام أحد المؤثرات في شؤون الحياة كافة، بل لا نبالغ إذا قلنا أن الإعلام تدخل بشكل كبير وواسع في كتابة وإعادة صياغة التاريخ، ولا يختلف اثنان في مدى تأثير وسائل الإعلام في حياتنا سلبا أو إيجابا.
إن الآلة الإعلامية لدى العديد من تلك القوى أصبحت عاملا أساسيا مؤثرا في صنع القرار وتنفيذه، بل وتسيير الرموز وتوجيهها وإعلاء شأن البعض وطمس آخرين بحسب الأدوار والأوراق والحملات الإعلامية في الانتخابات لأكبر شاهد، حتى أضحت من أقصر الطرق في التأثير والإقناع لما يخطط له ويراد تطبيقه ضمن أجندة وبروتوكولات مقدمة ومدروسة.
هذه كانت مقدمة ومدخل عام للموضوع، وحتى لا نبتعد عن صلب القضية التي أردت طرحها والتذكير بأهميتها، بما يخص اللاجئين الفلسطينيين في العراق، والضعف الواضح والاضطراب الكبير في هذه الجزئية الهامة، التي كان من المفترض تستثمر بطريقة أوسع وتستغل بشكل أكبر، مقارنة مع ما تعرضنا له من زلزال وإبادة وتنكيل.
من المتفق عليه في أيامنا هذه أن الإعلام لا سيما المرئي منه له تأثير كبير في تغيير المبادى وترسيخ مفاهيم خاصة في الغالب نتيجة تراكم المعلومات وكثرة وتنوع الاطروحات، بغض النظر عن مصداقيتها أو دقتها أو موافقتها للتاريخ والحقيقة، ويعد هذا هو الغالب والسائد إلا من رحم الله وقليل ما هم.
مع أننا نعتقد أن المصداقية في الطرح والدقة في التعبير والوضوح في الرؤيا هو الأصل لأن الصدق منجاة، وأن تلك الحضارات والدول والمجتمعات التي قامت على الكذب والنفاق والخديعة والغش مصيرها إلى زوال وسوف تسطر في مزبلة التاريخ، لكن مع كل هذا ينبغي علينا أن نواكب هذا الكم الهائل من الخزين الإعلامي، وأن تكون لنا بصمة مشرقة تكتب لنا وتسجل مهما ضعفت، وأن نبذل قصارى جهدنا بجميع الوسائل المتاحة والمباحة لإيصال قضيتنا ونشرها وطرحها بشكل يتناسب مع حجم الكارثة إن لم يكن أوسع.
إن حجم الكارثة التي تعرض لها الفلسطينيون في العراق بعد عام 2003 تفوق نكبة عام 1948 ، من حيث التهجير والقتل والتشريد والضرر والمعاناة واللئواء وضنك العيش، وكذلك من حيث انعكاس تلك الانتهاكات على النواحي الصحية والاجتماعية والتعليمية والثقافية بل والتاريخية، فخلاصة ما حصل هو اجتثاث شامل وضياع متكامل لمجتمع صغير عاش ونشأ وترعرع في العراق، حتى أصبح بلد النشأة والتأقلم والمرجع والتجذر.
لحد الآن نعتقد بأن قضيتنا ومشكلتنا لم تأخذ الحيز المناسب ولم يسلط الضوء عليها ولم تغطى حيثياتها إعلاميا، وهذا ينعكس بشكل سلبي على إيجاد حلول مناسبة ومنصفة، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ونتيجة للابتعاد أو الضعف عن التصور الفعلي الحقيقي لحجم الكارثة كانت الآثار والمآلات والنتائج مخيبة للآمال، أضف لذلك العديد من المواقف والصفقات السياسية التي حالت دون حلول مجدية.
في عدة مدن وعواصم عربية أتعمد ذكر مصطلح " فلسطينيو العراق " وما حل بهم وحصل لهم، والصدمة الكبرى في الجهل المطبق وعدم الوعي للعديد من شرائح المجتمعات العربية، إزاء هذه القضية التي أصبحت إنموذجا للظلم والاضطهاد من القريب قبل البعيد، فغالبا ما تذهب الأذهان لقطاع غزة بمجرد معرفتهم بأنني فلسطيني، وهذا شيء طيب وجيد أن يصل المدى الإعلامي بالتعاطف مع أهلنا الصامدين في قطاع غزة المحاصر، وهذا نتيجة التركيز الإعلامي وفداحة الحدث من خلال حرب الإبادة والمجازر التي ارتكبتها آلة الدمار والحقد والخبث اليهودي.
وعندما أبدأ بالحديث عما تعرضنا له من انتهاكات ومآسي لا زالت مستمرة، يستغربون ويبدأ التعاطف الذي سرعان ما ينتهي نتيجة ضعف الأواصر العربية والإسلامية في مجتمعاتنا وضعف التفاعل الحقيقي مع قضايا الأمة المصيرية التي أصبحنا جزءا منها، وهذا القصور في معرفة مجريات الأحداث يرجع بالدرجة الأساس لفقدان الإعلام المؤثر وضعف إيصال القضية لمحيطنا العربي والإسلامي بالإضافة للمؤامرات التي تحاك لطمس الحقائق وتضييع وإزالة مجتمع بأكمله وإذابته في مجتمعات هجينة طارئة مختلفة!!
لأكثر من سبع سنوات خلت من المشقة والعنت وعدم الاستقرار لا زلنا نبحث عن الإعلام المفقود؛ الإعلام الغير مسيس .. المنصف .. الواقعي .. المحايد .. الصادق .. الذي يهدف لنشر القضية وإظهار حجم الظلم وفداحة الجريمة وعِظم المؤامرة وكبر الفاجعة، بعيدا عن أي ضبابية و اضطراب أو فئوية و مزاج أو عشوائية ومكاسب!!
كم فرحنا عندما خصصت قناة فلسطين الفضائية برنامج أسبوعي أواخر عام 2006 يتحدث عن تلك المأساة المنسية، ويتفاعل معها حتى ارتفعت معنويات الكثير وأصبح هذا البرنامج المتنفس لديهم، إلا أن عوامل سياسية وخفايا حالت دون الاستمرار، لتبدأ مرحلة تخبط وتأرجح إعلامي لا زلنا نجني رماده ونحصد آثاره ودخانه.
إن ضعف الموقف الرسمي الفلسطيني إزاء قضيتنا وانعدام المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية المنافحة والمتبنية لتلك القضية، انعكس بشكل سلبي واضح على الأداء الإعلامي ، وبالتالي قصور جلي وإهمال كبير ظهرت آثاره وأضراره لاحقا، والعجيب أن البعض كان يبرر القتل والانتهاكات والاعتداءات، بالإضافة لسكوت آخرين وعدم صدعهم بالحق ونصرتهم للمستضعفين من الفلسطينيين في العراق المغلوب على أمرهم.
إن التخبط والعشوائية وعدم إدارة دفة المواجهة على الأقل إعلاميا؛ ساهم بشكل كبير في انعدام الإعلام المؤثر وإيصال الحقائق كما هي لأصحاب القرار والمعنيين، وتبعثر الجهود وضياع المظالم وطمس المعلومة، ناهيك عن محاولة التسلط وتكميم الأفواه وتقمص الأدوار والانتهازية والتظاهر بمظهر الحريص المشفق من قبل البعض، إلا أن الدعاوى إذا لم تقم عليها البينات فأصحابها أدعياء !!
لذلك كل ما نشر وتم بثه من برامج وأفلام وأخبار وكتابات وتحقيقات ودراسات أعطى مؤشرات وخطوط عريضة للقضية، لم تصل إلى حد الطموح والمطلوب مقارنة مع هذا المصاب الجلل، والعجيب أن معظم هذه الجهود فردية وإمكانيات متواضعة بعيدة عن التخصص والحرفية أو عفوية لجهات إعلامية لها مقاصد وسياسات معينة أو ضمن نطاق عملهم المحض، وكما يقال للضرورات أحكام وما لا يدرك كله لا يترك جله.
وعندما نقيّم الترويج الإعلامي للقضية، بغض النظر عن المقاصد والمغازي، نجد أن لقناة الجزيرة الفضائية دور مميز وواضح في تغطية العديد من الأحداث والانتهاكات، وكان الأكثر بروزا الفلم الوثائقي الذي أنتجته الجزيرة عام 2008 بعنوان " فلسطينيون تحت خط الاستواء ".
بطبيعة الحال كان للعديد من وسائل الإعلام المرئية والسمعية والمكتوبة دور جيد، من خلال طرح بعض الأحداث كل بحسب رؤيته وسياسته والزاوية التي ينظر من خلالها، وأذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر البرامج المتكررة التي بثتها إذاعة دار السلام العراقية بخصوص فلسطينيي العراق.
ما نريد الإشارة إليه أن قصورا وضعفا بل وإهمالا، لا زال يكتنف هذا الملف وتلكم القضية المأساوية، والسؤال الذي يطرح نفسه: هل عُدمنا الإعلاميين ؟!! أم فقدنا أصحاب الكلمة ؟!! ألا يوجد فينا كتاب ومثقفين ومتعلمين يحملون هم هذه القضية ولو بالمقالة أو إيصال صرخات أمهاتنا وأخواتنا وأيتامنا للعالم؟!! ولِمَ لم يشمر كل واحد منا عن ساعد الجد ويكتب ما شاهد ويوثق ما رأى وينشر ما حصل ؟!! فكيف نريد الارتقاء وأنجع الحلول ونحن نراوح في مكاننا إلا قلة قليلة ممن حملوا هذا الهم نسأل الله أن يكثرهم.
ولسان حال الشاعر فينا :
من يهن يسهل الهوان عليه *** ما لجرح بميت إيلام
إن رجال الحدث وأصحاب القضية الذين لامسوا هول المصيبة، وتعايشوا معها في كل مفاصلها ولحظاتها؛ هم أولى الناس وأجدرهم في بذل أوقاتهم وجهودهم لصياغة هذه المرحلة وتوثيقها وكتابة التاريخ، بل هم المعنيين بالمطالبة بحقوقهم الضائعة والتصدر بقوة لقضيتهم وتحملها حتى لا تكون لقمة سائغة للانتهازيين والمتكسبين الدخلاء عليها، وكما قيل في المثل " لا يحك جلدك مثل ظفرك "!!
إن الفسحة في الحركة وتنوع البيئات التي نتواجد فيها بعد تفرقنا وتشتتنا في أسقاع الأرض، عامل إيجابي لبذل قصارى جهدنا وتكثيف عملنا بكل الوسائل المتاحة لطرح قضيتنا إعلاميا وبيان حقيقة الجاني والمجرم بحقنا بدقة وبراهين وموضوعية، وكذلك حجم وفداحة الخسائر المادية والمعنوية التي تكبدناها، من غير مداهنة ولا مماراة ولا مجاملة أو تملق وإلا فالتاريخ سيحاسب كل من قصر على الأقل بهذا الجانب الهام.
إن كثرة الطرق على الجهات الإعلامية واستثمار كل وسيلة وفرصة وحدث والتحرك على مستوى المؤسسات والأفراد مع الصبر والمصابرة؛ يعطي ثمار طيبة وهذا لمسناه مع تواضع الجهود وقلة التفاعل.
وأخيرا نحن بحاجة لإعلام لا زال مغيبا، وتوثيق لا زال قاصرا، وتكثيف للجهود وتركيز للأهداف لا زال مفقودا، لعل هذا التذكير - لنا ولأهلنا في كل مكان - يحفز الجميع على استنفار الهمم وبذل الغالي والنفيس، ومضاعفة الجهود لإظهار خفايا القضية وحقائقها المغيبة بعيدا عن أي مقاصد ضيقة ومزاجية مزعجة ومصالح مرتقبة، لعلنا نقدم شيئا وجزءا مما هو ملقى على عواتقنا جميعا وينفعنا في قضيتنا وديننا وآخرتنا .
أيمن الشعبان
باحث متخصص بشأن الفلسطينيين في العراق
22/9/2010
"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"