عجباً أمرك يا رجل ,, وعجيبٌ صراع الخاسر ,, فالنفس تبقى كما صيرها الله ,, تبتهج حين تجد ِما يفرحها ,, وتلوذ بحزنها بعيداً عن أعين الناس ,, فأِن لم تستطع أن تلوذَ لمعزلها ,, أو تعجز عن الفرار ,, لكي تمارس حزنها ,, في محراب الآهات والآلام والذكريات ,, تراها تأخذك أنت وأفكارك لتذهب بكما بعيداً ,, في مكان اللامكان ,, وفي زمان توقف عقارب الساعة ,, لتسكنك وتسكنها ,, فتغوص بأعماق الروح ,, وتوغل في ثنايا القلب ,, وتمارس معك لعبة ,, الوجود واللا وجود ,, فتصبح ماكثاً حيث أنتَ بجسدك فقط ,, فأما الروح بصحبة النفس ,, يمارسان معك ما لا تشتهي ,, ولا تصحو مما أنتَ فيه ,, رغم أنك غير مغمض العينين ...
تصحو لصوت من حولك ,, قائلاً : ها .. أين أبحرت الآن ,, وهل وجدتَ مرسى على بر الأمان ,, أم أنك ما زلت تلطمك بقوة أمواج الهواجس ,, التي لا سبيل لأنقطاعها ,, فتجفل من فورك فزعاً ,, وتروح تلملم ما ترديه من ثياب ,, لتضمها الى جسدك الهزيل ,, لعلها ترحمك من الردِ على صاحب السؤال ,, تلملمها بطريقة أقرب لمن سقط سرواله عن خصره ,, حتى وصل الى الركبتين ...
تشعر حينها كأنكَ تقف في زحمة تدافع المعزين ,, بإنسان قبل أن يمت لم يكن يذكر وحين نفق ,, أدركوا أنه عزيز قومٍ .. أنه هو أنتَ الأنسان ؟؟ تدرك لاحقاً أنك أنت المُعزى فِيكَ ,, وأنك أنتَ ليس أحد القادمين من بعيد لمجلس العزاء ,, تمعن النظر بالحضور ,, تبحث بعينيك المثقلات بهموم غابر الأيام ,, تفتش بنظراتك ,, المتوجسه ,, الخائفة ,, الحائرة ,, والتي لا قدرة لها ,, لترى فيها حتى أقرب الأشياء اليك ,, لذا اقتضى عليك ملامستها قبل البت بماهيتها ...
من أقرب أليك من صاحب السؤال ؟؟ صاحب ال هــا .. تَعضُ بأسنانك على شَفتك السفلى ,, متخذاً من العليا ساتراً لأسنانك ,, تطرق برأسك أرضاً ,, تُشبك أصابعك بعضها ببعض ,, ليسمع كل من حولك صوت تكسرها ,, تنحني لكي تلتقط شيئاً ما ,, من على الأرض ,, تكاد أن تهوي على وجهك لشدة انحانك المفاجيء ,, تشعر بالبلاهة من نظراتهم ,, فهم لم يكفوا التحديق بك ,, وترى ألف سؤال في عينوهم ,, وتلحظ اندلاق أسألتهم على شفاههم ,, ولكن كما يبدو لك ,, أنهم جميعاً أبتلعوا ألسنتهم ,, وقد تعسر عليهم قذفها مثل قيءٍ ,, امتلئت به الأفواه المتعطشة بطرح السؤال ,, فالظمأ أيبس الحلق ...
تُحدثك نفسك عنهم ,, ما لهم أليس في ذلك المكان أحداً غيري؟! ليمارسوا معه لعبة التذاكي لمعرفة عمن أبحث ,, فدعاني للانحاء حد السقوط على الأرض ,, فهذا يقول همساً أنه يبحث عن نظارته ,, وهو لا يكاد أن يرى شيئاً من دونها ,, ويا بلاهته فهو لم يلحظ أنها من شدة التصاقها على عينيك ,, أصبحت جزءً من وجهك ,, فأطرافها حفرت أخاديد لها ,, فغاصت في عظمة الأنف ,, وما وراء الأُذنً قد شقت لها جدولاً لتغفو فيه ,, مثل قطارٍ لا يعرف أن كان هو من يحتضن السكة الحديدية ,, أم هي من تحتضه؟!
وأكثرهم حنكة ودراية ومذاكاة ,, تسمعه يقول لمن بقربه: من الواضح أنه فقد شيئاً غالياً عليه ,, أو أنه نسيً تقديم التعزية ,, ويخشى أن يرى من لا يرغب في رؤيته وهو على حاله هذا ,, فاصطنع حركة الانحناء هذه ,, الى الأرض ليبحث عن لا شيء ,, والآخر يقول لعله دخل مجلس العزاء خطأً ,, ظنً منه أنها خيمة مقامٌ فيها حفلة عرس ,, لذا تراه وقع في حيرة السؤال ,, لم يأبه لا لهذا ولا لذاك ,, فليقولوا ما يحلوا لهم ,, فلا شأن لي بهم ...
استفاق بعدَ كل هذه الأسئلة ,, ليلطمه من جديد ,, حرج السؤال تلوَ السؤال ,, حتى احمرت وجنتاه ,, حقاً أنا عمن كنتُ أبحث ,, ولما كل هذا الاهتمام من الحضور ,, وهو بين بين معرفة الرد لسؤاله ,, تذكر ويا ليته لم يتذكر ,, فَهَمً ليدس يده مخرجاً منديله الناصع البياض ,, ويمسح من على الأرض ,, دمعة أسقطتها أحدى عينيه رغم عنه ,, فهو حبيسها وأن كثر نذير طلقها الموجع منذ سنين ,, محاولةً الولادةَ كي تنسكب مثل شلال ,, مسحها برقةٍ ,, بل التقطها بطرف منديله ,, وكأنها كل عمره الذي مضى وسيمضي .. وخشيً أن تداس بالأقدام ؟؟؟ ...
بعدها عاد وارتمى على أقرب كرسي لامسته عينيه قبل يديه ,, وراح يفرش على وجهه ابتسامة المنتصر المهزوم في آنٍ واحد ,, هزم حين أفلتت منه تلك الدمعة لِحَرِ طلقها ,, فأفلتت منه هذه المرةِ عنوةً لتسقط على الأرض ؟؟ وانتصر حين التقطها قبل أن تدوسها الأقدام ,, فهيً عنده بمثابة سنين عمره ,, وهي رفيقته لما تبقى من حياته في القادم من الأيام ؟؟؟؟ فتبسم بسره ثانيةً ,, تبسم في جوف ذكريات ذلك الإنسان ...
تبسم لأنه أدرك متأخراً أن قماطه حين كان رضيع أبيضٌ ,, وأن حليب الحياة الذي رشفه من ثديِ أمه ,, والذي لم يزل يتلذذ بمذاقه الحلو في فمه ,, كلما مر بحنظل الأيام ,, هو كذلك كان .. أبيض ,, وبقايا الطبشور الذي اختلسه,, من على سبورة طفولته ,, ما زال أثره على كفه .. أبيض ,, وثوب عروسهِ حين زفت إليه .. أبيضٌ ,, ومنديله الذي أخرجه من جيبه .. أبيضٌ ,, وشراشف أسرًة المشفى ..الذي يرقد فيه .. أبيضٌ ,, ودمعته كانت بيضاء بلون الثلج ,, وكذلك هو سيكون لون .. الأكفان ...
بقلـلم / جمــال أبــو النســب
الولايات المتحدة الأمريكية / كاليفورنيا
28/5/2012
المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع
"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"