الانتكاس هاجس الصادقين – أيمن الشعبان

بواسطة قراءة 615
الانتكاس هاجس الصادقين – أيمن الشعبان
الانتكاس هاجس الصادقين – أيمن الشعبان

الحمد لله الكريم القهار، مقلب القلوب والأبصار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيز الجبار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المختار، صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وأصحابه الأبرار، صلاةً باقية بقاء الليل والنهار، وبعد:
فمنذ أكثر من عقدين لمّا كنت أقرأ وأطالع بعض الكتب والمراجع والبحوث، في علامات آخر الزمان وأشراط الساعة وظهور الفتن وانتشارها، كان ينتابني بعض الاستغراب والتعجب من بعض الأزمنة وأحوال الناس، كيف تنتكس النفوس وتضطرب الآراء وتتقاذف الأهواءُ القلوب، فترى وتسمع ما لم يخطر على بال وما لم يكن في الحسبان.
وكما في المثل المعروف "عش رجباً ترى عجباً"، أدركنا هذه الأيام العصيبة مِن تقلب أحوال الناس وتغيّر مواقفهم، مَن يسعى لتحقيق أهدافه ومصالحه بأية صورة أو وسيلة بصرف النظر عن مشروعيتها، وبعيداً عن المبادىء التي تربى عليها، والثوابت التي تلقاها منذ عقود، والقيم التي نشأ عليها.
يُقضى على المرء في أيام محنته *** حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن
الثبات على الحق غايةٌ شمّر إليها الصادقون، وجاهد في سبيلها المخلصون، وتعاهدها الموفقون المسددون، فعَنْ أَنَسٍ – رضي الله عنه - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ» »[1].
وفي رواية ابن ماجه (199): «يا مُثبِّت القلوب: ثبِّت قلبي على دينِك».
وعن النوَّاس بن سَمعان - رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم: ««ما من قلبٍ إلا بين أصبعين من أصابِع الرحمن، إن شاء أن يُقيمَه أقامَه، وإن شاءَ أن يُزيغَه أزاغَه »» [2].
فالأمر جد خطير، فلا يقول قائل: لدي من الخبرة والتجربة والفطنة والحافظة والذكاء، والتاريخ المشرق والتمييز بين الحق والباطل ومعرفة الصواب، والفهم السديد والبصيرة الثاقبة، ما يعصمني من الشطط والخلل والزيغ! فهذا خير الخلق صاحب أتقى وأنقى وأطيب وأثبت قلب – صلى الله عليه وسلم- يكثر من دعاء ربه وسؤاله الثبات على الدين، ليصبح الانتكاس هاجساً، والتقلب أمراً مقلقاً، نسأل الله العافية والسلامة.
لنتأمل ونتدبر – يا رعاكم الله- بمُقَلِ أفئدتنا، دعاء الراسخين في العلم وأصحاب العقول السديدة والآراء الراجحة، وسؤالهم ثبات القلب وعدم افتتانه وانتكاسه، بعد أن ذاقوا حلاوة الإيمان ولذة العلم، قال تعالى: { {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ . رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} }[آل عمران:7-8].
الله أكبر ، فماذا نقول أنا وأنت؟! إذا كان هذا حال هؤلاء القدوات الكبار أهل الفهم والفقه والدراية؟! فالخطب جلل والنازلة عظيمة، فليس العبرة أن ترى نفسك مستقيماً وتسير بطريق صحيح فحسب، إنما العبرة الثبات حتى الممات، { {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} }[الحجر:99]، وليست العبرة أن تستقيم كما رغبت وأحببت بل كما يريد الله منك وأمرت به، قال تعالى: { {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} }[هود:112].
وللتوكيد على خطورة الفتن على النفس، كان عليه الصلاة والسلام قبيل الانتهاء من صلاته يستعيذ بالله من فتنة المحيا والممات قبل التسليم، يقول ابن دقيق العيد: وَ"فِتْنَةِ الْمَحْيَا" مَا يَتَعَرَّضُ لَهُ الْإِنْسَانُ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ، مِنْ الِافْتِتَانِ بِالدُّنْيَا وَالشَّهَوَاتِ وَالْجَهَالَاتِ، وَأَشَدُّهَا وَأَعْظَمُهَا - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى: أَمْرُ الْخَاتِمَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ[3].
شقي – والله - من عرف الطريق ثم أدبر، وبؤساً لمن ذاق الحلاوة ثم تنكر! وتعساً لمن سلك الدرب ثم تقهقر، وخسر – والله – من عاش على المبادىء والثوابت ثم انحدر! باع الدرَ النفيسِ بالبعرِ الخسيس! { {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} }[البقرة:61].
الإنتكاس مرض خطير وداء مستطير، يُبتلى فيه من اقتحم الفتن المدلهمات، طالباً شهرةً أو منصباً أو مميزات! دون حصانةٍ أو تمسك بالمبادىء والثوابت والمسلمات، فتنقلب المفاهيم وتضطرب الموازين، فيصبح الباطلُ حقاً والحقُ باطلاً، { {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} }[الحج:46].
لنتأمل بآذان قلوبنا قبل آذان أسماعنا وعيوننا، إخبار النبي عليه الصلاة والسلام عن الفتن التي تقع بوصف عجيب وتهويل شديد، من تتابعٍ وظلمةٍ وخطورة، حتى يصبح متجنبها والهارب منها غريباً بين الناس، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ««يظهرُ النفاقُ، وتُرفعُ الأمانةُ، وتُقبضُ الرحمةُ، ويُتَّهمُ الأمينُ، ويُؤتمنُ غيرُ الأمينِ، أناخَ بكمُ الشُّرْفُ الجُونُ»، قالوا: وما الشُّرْفُ الجُونُ يا رسولَ اللهِ؟ قال: «فِتَنٌ كَقِطَعِ الليلِ المظلمِ »» [4].
يقول الصنعاني: يملأ الآفاق ويسود به الأكوان، كذلك الفتن تسود بها الأديان والدنيا[5].
قال ابن الأثير: شَبَّه الفِتَن فِي اتِّصالها وامتِدَادِ أوقاتِها بالنُّوق المُسِنة السُّود[6].
وهنالك أوصاف وأحوال أدق وأخطر وأعجب جاءت عن الصادق المصدوق – عليه الصلاة والسلام، تستدعي من العقلاء كثرة الاحتراز وسؤال الله الثبات على الحق، فعن أنس بن مالك – رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ««تَكُونُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ أَقْوَامٌ دِينَهُمْ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا»» [7].
"
ويمسي كافراً": لما يأتي من عظم الفتنة، "يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا قليل": لتهاونهم بأمر الدين[8].
وعن ابن عمر – رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ««ليَغْشَيَنَّ أُمَّتِي من بعدي فِتَنٌ كَقِطَعِ الليلِ المظلِمِ، يُصْبِحُ الرجُلُ فيها مؤمنًا، ويُمْسِي كافِرًا، يبيعُ أقوامٌ دينَهم بعرَضٍ منَ الدنيا قليلٍ»» [9].
"
يَبِيعُ أَحَدُهُمْ دِينَهُ": أَيْ بِتَرْكِهِ، "بِعَرَضٍ" بِفَتْحَتَيْنِ: أَيْ بِأَخْذِ مَتَاعٍ دَنِيءٍ وَثَمَنٍ رَدِيءٍ[10].
قال النووي في شرح مسلم (2/133): وَهَذَا لِعِظَمِ الْفِتَنِ يَنْقَلِبُ الْإِنْسَانُ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ هَذَا الِانْقِلَابَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه- يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ««أَظَلَّتْكُمْ فِتَنٌ، كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، أَنْجَى النَّاسِ مِنْهَا صَاحِبُ شَاهِقَةٍ يَأْكُلُ مِنْ رُسُلِ غَنَمِهِ، أَوْ رَجُلٌ مِنْ وَرَاءِ الدُّرُوبِ آخِذٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ يَأْكُلُ مِنْ فَيْءِ سَيْفِهِ»» [11].
وَالْمَعْنَى: كَقِطَعٍ مِنَ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ؛ لِفَرْطِ سَوَادِهَا وَظُلْمَتِهَا، وَعَدَمِ تَبَيُّنِ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ فِيهَا[12].
يقول ابن عثيمين: يعني أنها مدلهمة مظلمة؛ لا يرى فيها النور والعياذ بالله، ولا يدري الإنسان أين يذهب؛ يكون حائراً، ما يدري أين المخرج، أسأل الله أن يعيذنا من الفتن[13].
قَالَ الْحَسَنُ: وَاللهِ لَقَدْ رَأَيْنَاهُمْ، صُوَرًا وَلَا عُقُولَ، أَجْسَامًا وَلَا أَحْلَامَ، فَرَاشَ نَارٍ، وَذِبَّانَ طَمَعٍ، يَغْدُونَ بِدِرْهَمَيْنِ، وَيَرُوحُونَ بِدِرْهَمَيْنِ، يَبِيعُ أَحَدُهُمْ دَيْنَهُ بِثَمَنِ الْعَنْزِ[14].
في المحن تظهر معادن الرجال، وفي مواطن الابتلاءات تكثر التقلبات، وعند كثرة المفتونين ترى مصارع المنتكسين، فما أكثرَ الراجعين أثناء الطريق في زمن استطالة الباطل وانتفاش أهله، فالشرف لا ينال بالترف، والذكر الحسن لا يتحقق بالتلون وتغيير المواقف في أوقات الفتن.
ففي زمن الانتكاسات حريٌ بالمؤمن أن يعتصم برب الأرض والسموات، ويتبرأ من حوله وطوله وقوته ويلتجئ إلى الله، لذلك كان أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – في حروب الردة يدعو في صلاته يقول: { {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} }[آل عمران:8].
ولخطورة التقلبات كان عليه الصلاة والسلام في السفر يستعيذ بالله من الحَورِ بعد الكور، أي من النقصان بعد الزيادة، وقيل: من فساد أمورنا بعد صلاحها، وقيل: من الرجوع عن الجماعة بعد أن كنا منهم[15].
كم نحن بحاجة في هذه الأيام للتمسك بالأصول والثوابت، واستحضار القيم والمبادىء والأساسيات والعض عليها بالنواجذ، فالخطب جلل والمعصوم من عصمه الله من أمواج الفتن المتلاطمة، فتأملوا وتدبروا ذلك المثل العجيب الخطير الذي ضربه الله سبحانه في كتابه لنحذر كل الحذر من هذا الصنف الذي لم ينتفع من علمه ولم يثبت على مبادئه!.
قال تعالى: { {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ . وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} }[الأعراف:175-176].
فما أعجب هذا السقوط والتهاوي والانتكاس! قال: { {آتيناه آياتنا} }، أي كان عالماً وممن يشار له بالبنان وله أتباع ومتابعين وشعبية وجمهور، ولكن لم يعمل بعلمه ولم يمتثل للحق الذي يحمله، فالنتيجة كارثية { {فانسلخ منها} }، فما أعجب دقة اللفظ القرآني في هذا المشهد، نعوذ بالله من الخذلان.
فبعد العلم وبعد النظر والفقه والفهم والمشاريع النوعية، والخطط والاستراتيجيات وترسيخ المبادىء وتصدر المشاهد والأحداث، { {فانسلخ منها} } فنبذ كل ذلك وراء ظهره، وخلعها كما يخلع اللباس، وكما تنسلخ الحية من جلدها، وهذا التعبير فيه إشارة إلى التمكن التام الباطن والظاهر من ذلك العلم وتلك القيم!.
بعد ذلك استحوذ عليه الشيطان، فصار ناطقاً باسمه مروجاً للباطل صادّاً عن الحق مُشوِّشاً على أهله، حتى تمكّن منه الشيطان { {فصار من الغاوين} } الضالين المضلين المفسدين في الأرض، بعد أن كان من الصالحين المصلحين الراشدين المرشدين!.
ألم يعتبر هؤلاء بأن التاريخ لن يرحمهم في الدنيا؟ وأن مآلهم إلى الخزي والعذاب المهين في الآخرة، قال تعالى: { {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} }[الشعراء:94]، رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: قَوْمٌ وَصَفُوا الْحَقَّ وَالْعَدْلَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَخَالَفُوهُ إلى غيره[16].
بعض الناس كان يخطط لأن يكون من العالِمين العارفين المصلحين المُنظِّرين المشهورين، ينتظر ويتهيأ لتقلد منصب أو مكانة ووجاهة، أو حتى يكون له اعتبار في العالم الافتراضي، فصار – عياذاً بالله- من المفسدين الفاسقين المنافقين المنتكسين! قال تعالى: { {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} }[الأعراف:176]، اغتر بدنيا زائلة وملذات عابرة ومناصب فانية وحظوظ دنية، والأعجب من كل هذا؛ من يبيع دينه بدنيا غيره!.
{ {
وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ} } إلى منازل الأبرار من العلماء، بِها بسبب تلك الآيات وملازمتها، { {وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} } مال إلى الدنيا أو إلى السفالة، { {وَاتَّبَعَ هَواهُ} } في إيثار الدنيا واسترضاء قومه وأعرض عن مقتضى الآيات[17].
إن أعظم أسباب هذا الانتكاس والانحطاط والسُفول والسقوط؛ نفاق القلب وانعدام الصدق وكثرة الدعاوى وعدم العمل بالعلم، قال تعالى: { {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} }[التوبة:77]، وقال تعالى: { {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} }[النساء:88]، وقال عز وجل: { {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} }[النساء:66].
دَخَلَ أَبُو مَسْعُودٍ الأنصاري عَلَى حُذَيْفَةَ فَقَالَ: «اعْهَدْ إِلَيَّ». فَقَالَ: «أَلَمْ يَأْتِكَ الْيَقِينُ؟» قَالَ: «بَلَى وَعِزَّةِ رَبِّي». قَالَ: «فَاعْلَمْ أَنَّ الضَّلَالَةَ حَقَّ الضَّلَالَةٍ أَنْ تَعْرِفَ مَا كُنْتَ تُنْكِرُ، وَأَنْ تُنْكِرَ مَا كُنْتَ تَعْرِفُ، وَإِيَّاكَ وَالتَّلَوُّنَ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ دِينَ اللَّهِ وَاحِدٌ»[18].
فلنوطن أنفسنا على التواصي بالحق والصبر عليه حتى الممات، والثبات في الفتن والملمات، وعدم تغيير القناعات، أو استبدال الثوابت بالمتغيرات، مهما عَظمت التحديات، وكثرت الضغوطات، ولنتأسّ بموقف السحرة الذين تمكن الإيمان من قلوبهم، لمّا توعدهم فرعون وهددهم، ثبتوا وصمدوا و{ {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى . إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى . وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى . جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} }[طه:72-76].
أخيرا: إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله في آخر حياته، ووفقه لعمل صالح وموقف مشرف ومشروع عظيم وبصمة في إعلاء كلمة التوحيد والحق وقضايا الأمة المصيرية، ثم يُختم له بخير، كما قال عليه الصلاة والسلام: ««إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَكَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ؟ قَالَ: «يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ، ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ» »[19].
اللهم إنّا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد، ونعوذ بك من الحَوْر بعد الكَوْر، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك.
19/2/1442
هـ



المصدر : موقع طريق الإسلام