عاش شاب فلسطيني في لبنان أكثر من 20 عاماً. ولأنه ولِد في العراق ولا يملك أوراقاً ثبوتية، رأت محكمةٌ أنه دخل لبنان خلسة، وحكمت بحبسه وإبعاده من البلاد التي تعيش فيها عائلته. قضى الشاب حتى اليوم أكثر من 5 أضعاف محكوميته. فهل تحتاج بعض المحاكم إلى أن تكون أكثر إنسانية في أحكامها؟.
لم يكن إيهاب يظن أن زيارته لخطيبته في الشمال ستوصله إلى سجن رومية حيث قضى حتى اليوم أكثر من خمسة أضعاف مدة محكوميته. لم يكتفِ «القانون» ومطبّقوه بهذا الحد. فإيهاب شحادة أمام حكم قضائي مبرم قضى بإبعاده من البلاد التي عاش فيها الأعوام الـ21 الأخيرة، والتي دخل إليها طفلاً لم يتجاوز عمره الحادية عشرة.
عائلة إيهاب محمد شحادة هُجِّرَت عام 1948 من مدينة يافا الفلسطينية إلى العراق، حيث وُلِد عام 1976. بعد 11 عاماً (1987)، انتقلت العائلة إلى لبنان، لتستقر في بلدة جلالا بالبقاع الأوسط. دخل إيهاب إلى المدرسة، وعام 1993 حاز الشهادة المتوسطة الرسمية اللبنانية. أكمل تعليمه حتى البكالوريا، ولما لم يحالفه الحظ ترك المدرسة وبدأ العمل في مخرطة.
في العرف اللبناني، ليس إيهاب لاجئاً فلسطينياً، بل هو فاقد للأوراق الثبوتية، مثل أكثر من 4 آلاف فلسطيني دخلوا لبنان بعد عام 1967. عام 2006، مُنِحَ هؤلاء شهادات إثبات جنسية صادرة عن ممثلية منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، إلا أن هذه الشهادات لم تسمح لحامليها بتخطي الحواجز الأمنية، ولا بتسجيل عقود الزواج أو بإصدار شهادات ميلاد لأبنائهم وغيرها من المعاملات القانونية والرسمية.
يوم 24/12/2007، زار إيهاب خطيبته في مخيم البداوي. وفي طريق العودة، أوقفه حاجز قوى الأمن الداخلي على طريق ضهر البيدر حيث سُئِل عن أوراقه الثبوتية، فأبرَزَ شهادة الإثبات. الشهادة لم تكن جواز عبور للحاجز، فقبض رجال الأمن على إيهاب وأحيل إلى المحاكمة. في اليوم السابع من كانون الثاني 2008 أصدر القاضي المنفرد الجزائي المكلّف في زحلة الرئيس خالد عبد الله حكماً قضى فيه «بإبطال التعقبات الجارية بحق المدعى عليه إيهاب شحادة لعدم توافر العناصر الجرمية المنصوص عنها في المادتين 32 و36 من قانون الأجانب (الدخول خلسة والإقامة غير المشروعة)، وإطلاق سراحه ما لم يكن موقوفاً أو محكوماً بداعٍ آخر».
■ الأحكام المتناقضة :
القاضي عبد الله علّل حكمه بأن المادتين القانونيتين المذكورتين «تعاقبان من دخل الأراضي اللبنانية وأقام فيها من دون سبب شرعي ومقبول». ويُفهَم من هذا التعليل أن دخول البلاد خلسة والإقامة فيها من دون تحصيل إذن إقامة قانوني، لا يمثّلان مخالفة للمادتين المذكورتين، إذا كان سبب الدخول مبرّراً كالهرب من تعذيب أو أوضاع إنسانية صعبة. وهذا الرأي يوافق إلى حد بعيد نيّات المشرّع عند وضع قانون الأجانب يوم 10 تموز 1962، والمتعلقة بعدم جواز معاملة الأجنبي اللاجئ لظروف سياسية (وخاصة الأرمن والكلدان والأشوريين والعرب) كأي أجنبي آخر، وخاصة لجهة الترحيل أو المعاقبة على أساس الدخول خلسة.
إيهاب لم يكن ملاحقاً بجرم آخر، إلا أن سراحَه لم يُطلَق. فالنيابة العامة تقدّمت بطلب لاستئناف الحكم. ويوم 24/1/2008، أصدرت محكمة استئناف الجنح في البقاع المؤلفة من الرئيس هنري الخوري والمستشارَين علي البراج وعلي عراجي حكماً قبلت فيه الاستئناف وأبطلَت قرار القاضي المنفرد الجزائي، حاكمةً على إيهاب شحادة بالحبس شهراً واحداً وبالغرامة مئة ألف ليرة، فضلاً عن إخراجه من البلاد نهائياً. ومنذ ذلك اليوم، لا يزال إيهاب في سجن رومية.
الحكم الأخير كان مثار تعليق من القانونيين الذين قالوا إن محكمة الاستئناف لم تلحظ أن جرم دخول البلاد خلسة ليس جرماً متمادياً، وأنه سقط بمرور الزمن الثلاثي. وأضاف القانونيون إن المحكمة أغفلت كون إيهاب قاصراً عندما دخل إلى لبنان.
من ناحية أخرى، لا بد من الإشارة إلى أن عدداً كبيراً من المحاكم في لبنان أصدر أحكاماً بسجن الداخلين خلسة، لكن من دون الحكم بترحيلهم. وقد استند عدد من هذه المحاكم على المادة الثالثة من اتفاقية مناهضة التعذيب التي انضم إليها لبنان في أيار 2000، والتي تنص على أنه «لا يجوز لأي دولة طرف أن تطرد أي شخص أو أن تعيده أو أن تسلّمه إلى دولة أخرى، إذا توافرت لديها أسباب حقيقية تدعو إلى الاعتقاد بأنه سيكون في خطر التعرّض للتعذيب» (يراجع الحكم الصادر عن محكمة استئناف الجنح في بيروت يوم 20 آب 2001). كما استندت محاكم أخرى على المادة 14 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تعطي لكل فرد الحق باللجوء إلى دولة أخرى إذا كانت حياته معرّضة للخطر أو كان معرّضاً لخطر التعذيب. والجدير بالذكر أن الدستور ينص على احترام المواثيق والمعاهدات الدولية، التي باتت تتقدّم في التطبيق على القانون الداخلي اللبناني.
ويُضاف إلى ذلك في حالة إيهاب شحادة، أن الأخير بعدما دخل السجن، حصل على بطاقة لاجئ صادرة عن المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، بحسب ما ذكر أفرادٌ من أسرته. وهذه البطاقة باتت في نظر محاكم عديدة شهادة على أن حاملها معرّض لخطر التعذيب في البلاد التي أتى منها. ومعلوم أن إيهاب لا يمكنه العودة إلى فلسطين، وحياته لا محال معرّضة للخطر في العراق بسبب ما يعانيه الفلسطينيون الذين يعيشون في تلك البلاد، والذين تهجّر عدد كبير منهم بعد الغزو الأميركي عام 2003.
■ العفو الخاص أو الحل السياسي :
التفاوت الكبير بين حكم البداية وحكم الاستئناف، ولكل منهما قرارات مشابهة كثيرة في القضاء اللبناني، يوجب طرح تساؤل على المعنيين بالشؤون القضائية عن النظرة إلى حق اللجوء، وعما إذا كان المدعى عليهم قد أصبحوا تحت رحمة الحظ الذي يحدد مكان توقيفهم والمحكمة التي سيمثلون أمامها. وهذا الأمر الذي بات معضلة اجتماعية يوجب تدخّل المشرّع لتوضيح النصوص التي يؤمل أن يكون التوجه الإنساني غالباً عليها.
وفي ظل إجماع عدد من القانونيين على أن أبواب المراجعة القضائية قد سُدَّت أمام إيهاب شحادة، لا يبقى أمام السجين الذي أنهى محكوميته قبل 6 أشهر سوى المراهنة على حل سياسي لقضية الفلسطينيين فاقدي الأوراق الثبوتية يُمنَحون بموجبه بطاقات تعترف بها السلطات اللبنانية، ولا يكونون بعدها أسرى منازلهم خوفاً من التوقيف، كما هم أشقاء إيهاب الخمسة منذ توقيفه.
أمر آخر لا بد من طرحه، وهو استخدام رئيس الجمهورية لحقه بإصدار عفو خاص عن إيهاب شحادة، أقله في شق الإبعاد من البلاد، بعدما سُدّت طرق المراجعة القانونية. فالعفو الخاص ليس امتيازاً، بل هو واجب حين لا يأخذ القانون، في تطبيقه العام، بعين الاعتبار حالات خاصة كحالة إيهاب شحاده .
14/7/2008