كيف وصلت ؟ من اين اتيت ؟! يسألونك في المخيم ... هل الطريق آمن؟ كيف لك ان تتأكد ان المخيم سيعيد اليك رشدك؟!!
هو جرح نازف لا يتوقف .. ذاك المخيم ... وهو ابتداء الرحيل الى المنافي.
ما ان تطأ قدماك ارض المخيم حتى تدرك انك الان نصف حر ... رغم قناعتك المسبقة ان الحرية لا تتجزأ ...تحاول ان تنغمر في مداه منذ اللحظة الاولى ... والا , عد من حيث اتيت .
تعرف ان انقلابا قادما سيغير كثيرا من معادلاة الحياة فيك.. وان قناعات اكثر من اربعين عاما ستضيع اجزاءها بين ذرات الرمل الحارق.
مع ذلك كان ثمة بداية شعور بالاطمئنان جعلك تنسحب بكل كيانك الى مفاصل المخيم ... لتندمج باجزاء ستحبها بعد ذلك ..ستغنيك عن كل الالوان المبهرة التي تركتها بدمشق ... وببغداد ... قبل ان يحتلها لون واحد هو لون الموت.
ستقترب كثيرا من مداخلات اللون الواحد : الصحراوي.. بكل تدرجاته .. من قماش الخيمة الى ذرات التراب الى حاويات الماء الى وجوه الاهالي ..
حتى الغيوم واشعة الشمس هناك لهما لون الصحراء... وهما سيان في التأثير المدهش لحياتك هناك .. رغم التناقض الهائل بينهما , فهما المتضادان منذ الازل.
ويسألونك في المخيم : من حضر معك ؟!! العذابات الاولى .. وغمامات حمراء في الرأس هي حطام ذكريات .. وفي القلب اختزال لكل الاوجاع التي عشت ... والتي ستعيش... واوراق صفراء في الحقيبة تكاد تتهرأ .. وبقايا عشبة كانت قد نبتت هناك فوق قبر ابيك الذي تركك عند تراتيل الشيخ الكيلاني ... ولم يعد.
ويسألونك في المخيم : اينقصك شئ؟!! فقط بصيص امل ... ورائحة حنين امي ... وبقايا كبرياء لم تزل اوجاعه تزلزل روحي كلما نظرت الى الافق فلا ارى سوى الرماد.
ويسألونك عن المخيم : ماذا عن ليل الخيمة ؟؟! وهل في المخيم نهار ..... كل النهارات هناك تنطفيء .. فالعتمة اقوى واقسى وكتل الظلام تثقل عليك انفاسك تحت سقف الخيمة.
ويسألونك في المخيم : هل ثمة ما يزعجك؟!! لا شيء غير رصاص الثواني .. واختفاء الاوكسجين .. وصديق عزيز هو وتد خيمة ادماني وقماش هو اقرب الى كفن ... وحبل مشدود تدلى كمشنقة ... والريح التي تصفر من كل الجهات .
ويسألونك في المخيم : ما الذي يخيفك ؟!! رائحة موت قوية جدا ... هي بدايات احتراق خيمة ... هل ثمة ما يخيف اكثر من ذلك : احتراق كيانك بأقل من دقيقة ؟؟!! الرعب الاكبر هو ان تبدأ بالبحث عن قبر يأويك هناك ... بعد طول انتظار يائس.
ويسألونك عن المخيم : اتأكلون ... ؟ ماذا تشربون ؟!! فقط لو منحوك رداء غيمة تروي عطشك ... وثمار عوسج يسد الرمق ... ومعهما فضاء من مدى يعطيك جرعة حرية .. وخيط شمس تتسلقه لتعلن حضورك اليومي امامهم.
ويسألونك عن المخيم : وهل للخيمة باب ؟!! هل ل(جدارها) شبابيك؟! للفقرات وظيفة الانحناء نزولا عند رغبة ( الباب) ومن افق الشباك على ( الجدار) يصفع وجهك صقيع الشتاء وجحيم الصيف.... واحيانا تختلس النظر الى ظلام في النهار على شكل عواصف من رمل وتراب.
ويسألونك عن المخيم : هل تضجرون ؟!! هل يجتاحكم ملل ؟!! من قانون العلاقات المبتكر بين الاحبة في المخيم ... يخرج فصل وردي يحيل ضجر الخيمة الاسود الى ارضية فرح مباغت ... لكنه قصير .
ويسألونك عن المخيم : موظفو ( المفوضية) هل هم موجودون ... ام مجرد اشباح تتخيلون؟!! هل قابلكم احد؟ كزوبعة في فنجان يجيئون وكسحابة صيف في يوم عاصف ... يذهبون .
وهل ثمة توطين ؟؟!! على حافة العتمة وعند حد الموس المسموم هم باتوا يخططون لنسفك من دائرة( الاشقاء) ... وبرغبة دفينة من( الاشقاء) انفسهم .... اغصان المؤامرة السوداء بدأت تلتقي لتشكل جوهر الفكرة : الى المنافي شتتوهم .
ويسألونك عن المخيم : هل مر بكم رمضان ؟؟ هل تصومون؟!! وهل لنا غير شموع الصبر وتراتيل قبل الافطار ...وادعية مابعده , من اجنحة نحلق بها في فضاء الطمأنينة الحقة : الايمان .
وهل تداخل بين خيامكم عيد ؟!! بل قل هو ذبح بسكين مثلوم..عيد؟ وهل للضحية عيد؟ وعندما تدعوا مع الداعين ذلك الفجر البارد: الله اكبر... ولله الحمد.
هل تبقى خلية من جسدك دون ارتعاش...؟ الا تلاحظ كيف تحفر الدموع خطوطا للطول على خديك ؟! ثم يرتقي حسك البدائي سحابة فرح ابوي ... طفولي .... فتقبل ايادي كل من حولك من الاحبة وتوجه دعاءك الدامي : اللهم اجعلني واياهم في العيد القادم في حل من هذا المكان.
ويسألونك عن المخيم : هل تتزوجون ؟!! هل تنجبون ؟... اطفالكم ...كيف تربون وتعلمون؟ لولاها لكنا منقرضون .. هبة الخصوبة الربانية..
وللفلسطيني ابتكارات للحياة في المخيمات ... وجينات الحب هناك تختلط مع التراب .. واجنتها لا يعنيها الجدار من رخام كان ام من قماش خيمة مهترأ.... وللاطفال حصتهم من العذابات التي لا تطيقها اجسادهم الملائكية الغضة ... فلكي يثبت انه فلسطيني ... على الطفل ان يولد في مخيم.. وينسى طفولته .. ويهيأ نفسه لمنفى جديد .
ويسألونك عن المخيم : وهل تموتون ؟!! موتاكم اين تدفنون ؟؟ من يتقن لغة الموت اكثر منا... نحن الفلسطينيون ؟؟ وللموت هناك ..
حضور لا ينفك يجسد فينا فجيعة جديدة كلما اعتقدنا انه ... امتطى جواده ... ورحل ... لكنه يفاجئنا بانقضاضه المفزع على احد الاحبة فيربك حياتنا .. المرتبكة اصلا.. يوحد محيطنا لفترة ... يشطب رقما من سجلات المفوضية .. ويرفع رقم الجاثمين عند حافة العالم من فلسطينيي المخيمات ... تحت الارض.
ويسألونك في المخيم : الى اي منفى ؟ اين سيزرعوك .؟؟.. قبرك القادم ..اين سيكون ؟! اين رقمك في قائمة الشتات ؟؟؟
ويطلقونها زغاريد سخية ان كنت في القائمة القادمة : هيأ روحك لتغريبة مبهمة ..وانتظر من سيودعك عند حافة اخرى للعالم ..
وتنسى لحظة قادمة هي من الاشتعال اشده... ومن الالم اوجعه : وجوه الاحبة : اين ستراها بعد ذلك ؟؟ ولا يسألونك عنها : لحظة اندلاع الحريق هناك : في الذات المسافرة.. قانون الالم الفلسطيني : عسرة الوداع... فتنسى الرجولة اصحابها وينكمش كيانك الى دموع لا تدري من اين .... ولا تجف .. والموقف امامك يقترب من غرفة انعاش انت تقف خلف زجاجها وتلوح بيديك لحبيب يتلوى فيها ... وعند باب الحافلة ... تتساقط الرجال .. كما الامهات ... عند الاكتاف يلتحمون.. ولكن الى حين .. استلاب مرعب ان تقبّل وجها تعرف جيدا انك لن تراه بعدها ..سيما وجه الحبيب .
ها قد اتاك اليوم الذي كنت تخشاه : ان تدفع نصف ما تبقى من عمرك من اجل جلسة تحتسي فيها فنجان القهوة... هناك.. مع وجه حبيب .
وانا الان اسأل : من قراءات السنين الحائرة ... ومن خفايا العمر الصعب ... ومن خطوات الانا اللاهثة بحثا عن معنى جديد للوطن ..هل اقترب الترحال من رصيف تنشد فوقه : وطن تستقر فيه .. ؟ ام انتزعتك الجراح وحسرات الشتات ومحطات السفر المضني .. فتحولت سليل بحر هائج فقد موجة, تتأمل ان يقتفي اثرها وطن ,هو الان يستقر فيك ؟؟؟
أخوكم: أحمد أبو الهيجاء
لوس أنجلس
9/3/2011
المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع
"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"