لندن – القدس - نشرت صحيفة "ذي تايمز" البريطانية اليوم مقالا للصحافية كاثرين فيلب ارسلته من صحراء التنف على الحدود العراقية - السورية حيث يقيم 900 فلسطيني في خيام تحميهم من العواصف الرملية والفيضانات والحرائق. وتقول الصحافية في مقالها ان اخر ما يريد سالم احمد ان يصل الى سمعه هو تعبير "التضامن العربي". وكان يشاهد بمشاعر تشاؤمية تظاهرة دمشقية احتجاجا على العدوان على غزة عبر جهاز تلفزيوني عفا عليه الزمن داخل خيمة عرضة لمهب الريح. ويقول: "لو انهم يهتمون حقا بالفلسطينيين فانهم ما كانوا ليتركونا هنا في هذا المكان الموحش. لا تحدثيني عن التضامن بينما لا احد يهتم بما اذا كنا احياء هنا أم لا. لقد امضى المئات من الفلسطينيين الذين فروا من الاضطهاد في العراق ثلاث سنوات في هذه البقعة المقفرة على الحدود بين العراق وسورية. وكانوا يلقون معاملة تفضيلية من (الرئيس العراقي السابق) صدام حسين تأكيدا لتضامنه مع القضية الفلسطينية ـ لكنهم ما لبثوا ان وجدوا انفسهم اول اهداف الانتقام من الميليشيات الشيعية بعد انهيار النظام. لكنهم عندما حاولوا الهرب الى سوريا، وجدوا الطرق مسدودة امامهم. وفيما تمكن المواطنون العراقيون من المرور عبر مراكز الحدود، اعيد الفلسطينيون من حيث جاؤوا. لم يكن بامكانهم دخول سوريا ولا العودة الى العراق. واتخذ الفلسطينيون لكونهم بلا دولة ينتمون اليها وبلا جوازات سفر المكان الذي القوا فيه عند استراحة على الطريق محاطة بجدران بين علامي حدود مستقراً لهم.
ويعتبر مخيم التنف الوجه الخفي ليس فقط لازمة اللاجئين العراقيين، وانما ايضا لتاريخ الهجرة التعيس الذي يحكي مأساة الفلسطينيين. وقد ابقت الحكومة السورية ذلك تحت ستار من الكتمان لما يحمل من احراج، الا ان صحيفة "ذي تايمز" البريطانية كانت احدى هيئتي انباء وحيدتين تمكنتا امس من مشاهدة "التنف" عن قرب.
واول ما ذكره المواطن الفلسطيني عدنان عبد الله "هذا سجن، اخرجونا من هنا". فقد قام المالك الشيعي للمنزل الذي كان يقيم فيه في بغداد بطرد عائلته بعد سقوط نظام صدام، وانتقلوا الى مخيم موقت في ملعب لكرة القدم في المدينة. وقد هوجم المخيم واغلق في العام 2005.
اما الفلسطينيون الذين حاولوا الفرار واللجوء الى الاردن فقد احتجزوا في مخيم اخر على الحدود هناك، وقرر عبد الله البقاء في بغداد مع اخرين من اعضاء العائلة رغم التهديد لهم بالمغادرة. وفي حزيران (يونيو) من ذلك العام حضر اليه رجال ميليشيا "بدر" في منتصف الليل بحثا عنه. اقتادوه الى مركز احتجاز سري حيث ربطوه من رسغيه وشددوا عليه ليعترف بزرع قنابل.
وقال عبد الله "كانوا يصرخون تبا للفلسطينيين، تبا للقدس. وقالوا انهم يريدون اخلاء العراق من الفلسطينيين".
وكادت خطتهم ان تنجح، ولكن عندما اطلقت المحكمة سراحه بعد عام من الحبس والتعذيب كانت عائلته قد باعت ممتلكاتها للحصول على جوازات سفر عراقية تمكنهم من الدخول الى سوريا. وخلافا لما حصل مع آخرين تمكنوا من عبور الحدود الى دمشق حيث وجدوا آخرين من ابناء جاليتهم. ولما كانوا يقيمون بصورة مشروعة لا يحق لهم العمل وقد بدأ المال ينفد من بين ايديهم، فانهم يخشون من القاء القبض عليهم بين لحظة واخرى.
ويواصل المسؤولون في المخابرات السورية القيام بعمليات مسح منتظمة لمناطق اللاجئين العراقيين في دمشق، وقد القي القبض على كثير من الفلسطينيين واودعوا السجن او ابعدوا الى "التنف". وتوصل عبد الله الى نتيجة مفادها انهم في هذا المخيم يجدون المعونة وربما وسيلة للخروج من المأزق.
لكن ما وجدوه هناك اصابهم بذهول. فالسلطات السورية منعت المفوضية العليا للاجئين التابعة للامم المتحدة من توفير اي معونة يمكن ان تصبغ المخيم بالديمومة، وهكذا فان اللاجئين يعيشون في خيام الى جانب طريق تهدر فيه الشاحنات. وفي كانون الاول (ديسمبر) 2007 أثلجت. وفي الصيف الماضي اقتلعت عاصفة رملية عدة خيام. وفي ديسمبر (كانون الثاني) حطم الفيضان مخازن الطعام والملاجئ. ولقي اثنان من الاطفال حتفهما بسبب الشاحنات وتوفيت امرأة حامل عندما اشتعلت النيران في خيمتها خلال 12 ثانية.
لم يكن هناك خيار حينئذ لاسكان اللاجئين. وقال رئيس بعثة اللاجئين الدولية في دمشق لورين جولز ان السلطة الفلسطينية وحكومات الدول العربية تعارض التوطين على اسس سياسية، بان ذلك يعني التخلي عن حق العودة الى فلسطين وعن اقامة دولة فلسطينية. لكن جولز يقول "نحن لا نقر ذلك".
ولا يقره اللاجئون. يقول أحمد "ليست لدينا جنسية او جواز سفر او موطن. نريد ان نستقر. باي صفة يقول لنا هؤلاء ما يصلح وما لا يصلح للفلسطينيين. لا توجد اي دولة عربية تريدنا، واذا قبلت بنا دولة اوروبية فسنذهب الى هناك. انها مسألة تتعلق بمستقبل اولادنا".
وقد خضعت السلطة الفلسطينية والحكومة السورية للضغوط ووافقتا على السماح لعدد من اللاجئين بالاستقرار. استقبلت تشيلي 113، وذهب 181 الى السويد و 13 الى سويسرا. كما استقبلت بريطانيا 30 فلسطينيا من لاجئي العراق من دون ان يكون من بينهم احد من مخيم "التنف".
ومن اصل 350 شخصا لم يتمكنوا من عبور الحدود، ارتفع العدد الى 900 رغم عدم الشعور بالاستقرار. وكان الفلسطينيون قد ابعدوا او القي القبض عليهم في سوريا او ارهقتهم حياة المطاردة.
وقد شارك اللاجئون بقسط كبير من الضغط بهدف الاستقرار حيث قامت مجموعة من الشبان بالعمل معا في وحدة اعلامية تجمع صور الحياة في المخيم والفيضانات والحرائق والثلوج، وقد حملوها الى دمشق وعملوا على بثها عبر "الجزيرة".
وقال احدهم ويدعى يونس "نريد وضع نهاية للعزلة عن العالم". واتصل عضو اخر من المجموعة بمنظمات اخبارية عند البدء بالاحتجاجات ضد العدوان على غزة وقال هم "ان الحكومة مخاتلة. نحن فلسطينيون ولكنهم لا يبدون أي اهتمام بنا على الاطلاق".
اكبر المقيمين في المخيم هي حسنه وتبلغ من العمر 93 عاما. وقد اضطرت لمغادرة حيفا عام 1948 وليس لها اتصال الا باثنين فقط من ابنائها الاحد عشر. وقد قتل احد ابنائها ولا تعرف عن الباقين شيئا وتقول زينب زوجة ابنها "لن تغادر هذا المكان. ولن تذهب من هنا الا الى السماء. انها قصة فلسطين الطويلة من حياة المنفى والخيانة".
وتمتمت حسنه قائلة وقد امتلأت عيناها بالدموع: "لقد تبعثرنا دون أي راع. كنت اظن ان ملوك وامراء العرب سيحتضوننا. ولكنه أمل خادع".
لندن: 6/2/2009
القدس: 6/2/2009