الأرض المقدسة.. حقائق وعبر" إبراهيم عليه السلام" ( 3-14 )

بواسطة قراءة 4560
الأرض المقدسة.. حقائق وعبر" إبراهيم عليه السلام" ( 3-14 )
الأرض المقدسة.. حقائق وعبر" إبراهيم عليه السلام" ( 3-14 )

إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن خير الخلق بعد نبينا محمد عليه الصلاة والسلام وأبو الأنبياء، له قصة ومواقف وعبر، مع الأرض المقدسة إذ قصدها بالسكنى والعبادة وهو أول من هاجر إليها في سبيل الله فرارا بدينه من القوم الكافرين، حتى عرفت بعدها بمهاجر إبراهيم.

بعد أن نجى الله سبحانه إبراهيم من تلك النار العظيمة، التي ألقاه فيها عبّاد الأصنام في العراق النمرود ومن معه من الكلدانيين، ومن كيدهم ومكرهم كما قال تعالى( وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ )[1]،أي وأراد قوم إبراهيم به مكرا وتدبيرا يؤذيه ويقتله، فجعلناهم المغلوبين الأسفلين، ونجاه الله من النار.[2]

قيل: سلط الله على النمرود أضعف خلقه البعوض، وقعت في منخره فلم تزل تأكل إلى أن وصلت إلى دماغه، وكان أكرم الناس عليه الذي يضرب رأسه بمزربة من حديد، وبقي هكذا قرابة أربعمائة سنة.

وقيل: أَنَّ اللَّهَ سَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْآشُورِيِّينَ فَأَخَذُوا بِلَادَهُمْ، وَانْقَرَضَ مُلْكُهُمْ وَخَلَفَهُمُ الْأَشُورِيُّونَ، وَقَدْ أَثْبَتَ التَّارِيخُ أَنَّ الْعِيلَامِيِّينَ مِنْ أَهْلِ السُّوسِ تَسَلَّطُوا عَلَى بِلَادِ الْكَلْدَانِ فِي حَيَاةِ إِبْرَاهِيمَ فِي حُدُودِ سَنَةِ 2286 قبل الْمَسِيح.[3]

بعدها هاجر إبراهيم عليه السلام وابن أخيه لوط وزوجه سارة، إلى حران ثم مصر، ولوط انتقل إلى أرض الغور بمدينة سدوم وهي أم تلك البلاد في زمانهم، وكان أهلها أشرارا كفارا فجارا، وهي الآن في أغوار الأردن على حدود فلسطين.

وحصلت القصة المعروفة في مصر مع ذاك الملك وزوجه سارة، ثم وهب لها هاجر القبطية أمة ، ثم هاجروا إلى الأرض المقدسة في فلسطين، قال تعالى(وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ )[4].

أي إنه تعالى أتم عليه النعمة فأنجاه وأنجى لوطا معه إلى الأرض التي باركها بكثرة ما بعث فيها من الأنبياء الذينانتشرت شرائعهم فى أقاصى المعمورة وكثرة خصبها وأشجارها وثمارها وأنهارها، فهى أس الخيرات الدينية والدنيوية معا.[5]

هذه نجاة ثانية بعد نجاته من ضر النار، هي نجاته من الحلول بين قوم عدو له كافرين بربه وربهم، وهي نجاة من دار الشرك وفساد الاعتقاد. وتلك بأن سهل الله له المهاجرة من بلاد (الكلدان) إلى أرض (فلسطين) وهي بلاد (كنعان) .

وهجرة إبراهيم هي أول هجرة في الأرض لأجل الدين.

والأرض: هي أرض فلسطين. ووصفها الله بأنه باركها للعالمين، أي للناس، يعني الساكنين بها لأن الله خلقها أرض خصب ورخاء عيش وأرض أمن.[6]

ثم قال تعالى ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ )[7]، نافلة: أي زيادة وفضلا من غير سؤال.[8]

{جَعَلْنَا صالحين} بأن وفقناهم للصلاح في الدين والدنيا فصاروا كاملين.[9]

إبراهيم عليه السلام لما تقدم به العمر، سأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقه من الصالحين، فقال سبحانه عن إبراهيم( وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ . رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ . فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ )[10]،أي مهاجر إلى بلد أعبد فيه ربي، وأعصم فيه ديني. قال الرازي: فيه دليل على أن الموضع الذي تكثر فيه الأعداء، تجب مهاجرته. وذلك لأن إبراهيم عليه السلام، مع ما خصه تعالى به من أعظم أنواع النصرة، لما أحس من قومه العداوة الشديدة، هاجر. فلأن يجب على غيره. بالأولى.[11]

رب هب لي من الصالحين أي ولدا صالحا يعينني على الدعوة والطاعة فبشرناه بغلام حليم أي متسع الصدر حسن الصبر والإغضاء في كل أمر، والحلم رأس الصلاح وأصل الفضائل.[12]

الله سبحانه وتعالى وهب لإبراهيم مستجيبا لدعوته إسماعيل، في الأرض المقدسة فلسطين، ثم وهب له زيادة وفضلا وهبة إسحاق ويعقوب، وجعل في ذريته النبوة والكتاب، قال تعالى( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ )[13]،فلم يأت بعده نبي إلا من ذريته، ولا نزل كتاب إلا على ذريته، حتى ختموا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين.[14]

وعندما ترك هاجر وابنها إسماعيل عليهما السلام في مكة، كان يتردد بين بيت المقدس ومكة، في إشارة لأهمية البقعتين الدينية وارتباطهما الكبير، وأسس جيلا من خيرة الخلق على التوحيد يدعون الناس إلى عبادة الله وحده، حتى أصبحت تلك الأرض منارا للعلم ومنبرا للأنبياء ومحرابا للأتقياء.

ففلسطين هي الأرض التي عاش فيها أنبياء الله إسحق ويعقوب وذريته، صالحين في أنفسهم مصلحين لغيرهم، فقال تعالى( وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ . وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ).

وفي بيت المقدس جعلهم الله أعلاما ومقاصد يقتدى بهم في الدين لما آتاهم من العلم والنبوة، ثم أثنى عليهم في نهاية الآية بقوله سبحانه ( وكانوا لنا عابدين ).

بذلك عرفت الأرض المقدسة بأنها مهاجر الأنبياء، بعد أن سن ذلك خليل الرحمن عليه السلام، بل ستبقى كذلك إلى قيام الساعة، فيهاجر إليها أتباع الأنبياء من الصالحين، يقول عليه الصلاة والسلام( ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ).

 

6- رمضان- 1435هـ



[1]( الأنبياء:70 ).

[2]التفسير المنير للزحيلي.

[3]ابن عاشور.

[4]( إبراهيم:71).

[5]تفسير المراغي.

[6]ابن عاشور.

[7]( الأنبياء: 72 ).

[8]تفسير القاسمي.

[9]تفسير أبي السعود.

[10]( الصافات:99-101).

[11]تفسير القاسمي.

[12]تفسير القاسمي.

[13]( العنكبوت: 27).

[14]السعدي.